تشهد عمّان تغييرات كثيرة مستمرة في العقود الأخيرة، أثّرت على تركيبتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وفي حين يكتفي الكثير بترداد مقولات مكرّرة كسولة وظالمة عن طبيعة الحياة العمّانية الهادئة والرتيبة، قلّة من يقومون بالبحث ودراسة هذه المتغيّرات بشكل أكاديمي وجاد.
كما في أية مدينة حديثة لا زالت قيد النمو والتشكّل، تلعب مجموعة من العناصر الجيوسياسة والثقافية دوراً هاماً في تشكيل الهوية الحضارية الحديثة لعمّان، والتي هي أبعد ما تكون عن نموٍّ مدروس تتحكّم به الدولة أو تخطط له.
بعد بحثها في بيروت عن إعادة إعمار وسط المدينة، وكيف أثرت النيوليبرالية سلبياً على المشهد الثقافي وعلاقة الناس بالمدينة، تبحث الآن أستاذة الأنثروبولوجيا في “جامعة فوردهام” في نيويورك، أسيل صوالحة، في مشهد عمّان الفني والأثر على المشهد الحضري.
لا شك أن الكثير كُتب في وسائل الإعلام عن التغيّرات في المشهد الثقافي العمّاني في العقدين الأخيرين، لكن صوالحة من القلّة التي تبحث في الموضوع أكاديمياً. غادرت الباحثة الأردنية عمّان عام 1994 وعادت في 2006 لتلحظ التغيّر الكبير الذي حصل، والآن تقوم بالبحث في العوامل التي غيّرت من علاقة الجيل العمّاني الجديد بمدينته، من أثر اللجوء والاقتصاد النيوليبرالي على الحركة الفنية والثقافية وارتباط ذلك بالحياة المدينية.
بدأ هذا بالتشكّل بالنسبة لـ صوالحة مع موجات اللجوء المختلفة التي شهدها الأردن منذ أزمة الخليج الأولى، والجيل الجديد من الطبقة الوسطى الذي تعلّم في الخارج بعد عودته إلى عمّان، أو ممّن تلقى تعليماً خاصاً في الداخل، والذين وجدوا طريقة خاصة لاستكشاف المدينة.
انتعشت الحركة الفنية في المدينة مع بدء قدوم العراقيين إليها، مما خلق سوقاً فنّياً جديداً، كما تقول صوالحة في حديثها إلى “العربي الجديد” على هامش محاضرة أقيمت لها في العاصمة الأردنية، حيث ترى أن الفنانين العراقيين أنعشوا المشهد والسوق الفني في عمّان منذ عام 1993 وبعد غزو العراق عام 2003، إذ نقلوا أعمالهم ومراسمهم معهم. تضيف “كانوا في وضعية ترانزيت. لم يعرفوا ما إذا كانوا سيبقون في عمّان أو سيرجعون إلى العراق أم أنهم سينتقلون مجدداً من الأردن إلى أي مكان آخر. بقي بعضهم وصنعوا شيئاً من خلال وجودهم”.
الآن، انتشرت المراكز الثقافية والدور الفنية في جبل عمّان وجبل اللويبدة، وانتشر الجمهور مجدداً وتغيّرت تركيبته، وبدأت مساحات فنية بديلة تجد لها مكاناً في المدينة. تقوم صوالحة بإجراء مقابلات مع الكثير من ملاك المساحات الفنية ودور العرض في عمّان، وأيضاً مع من يذهب ويتابع هذه المعارض باستمرار.
تقول “توجد الآن مساحات مدينية لم تكن موجودة في السابق، وبدورها ساهمت في تكوّن هوية عمّانية جديدة تتفاعل مع محيطها”، ملاحظة أن “معظم أصحاب هذه المراكز من النساء، وجمهور الفعاليات الفنية متنوّع الآن، على خلاف السابق الذي كان مقتصراً على طبقة معينة وجمهور السفارات”.
تشهد عمّان الآن انتعاشاً فنياً، وكل من جبل عمّان وجبل اللويبدة يشهدان تغيّراً حضرياً ملحوظاً بشكله التجاري على الأغلب، وإن كان ما يزال جبل اللويبدة يحافظ على طابعه كبؤرة فنية وثقافية كما في السابق مع اختلاف التجربة والروّاد. “الحركة المدينية في السابق كانت مقتصرة على أماكن معينة مغلقة”، تقول صوالحة، “لكنها الآن تتوسع وتتشكل، ولدى فئة من الجيل الجديد همّ بالتغيير”.
تقول صوالحة: “آخر ما تفكر فيه عند زيارتك لهذه المعارض هو أنماط القهر الأبوي والديني الذي كتبت عنه الأدبيات الغربية التي تفرض أنماطاً محدّدة وخطاباً استعمارياً يطالب بتحرير المرأة العربية. صحيح، هناك تحدّيات كثيرة ليست بالسهلة تواجهها المرأة، لكنها تحديات من الممكن أن تمر فيها أية امرأة وليست حصراً على النساء في العالم العربي”.ترى صوالحة أن هناك تمكيناً للنساء في هذا المشهد أكثر من الغرب أحياناً، من طبقة عمّانية معيّنة هي جزء من النخبة العالمية التي تشكّلت على هامش الرأسمالية، ويتحرّكون خارج الأطر المحدّدة للعالم الأول والثالث ولهم وجود يجب الالتفات إليه، وفي الآن ذاته بدأ جمهور متابع متنوّع يظهر أيضاً في السنوات الأخيرة.
هذه الهوية الجديدة الحضرية تعدُّ سياسية أيضاً. تقول صوالحة أنه في السابق لم يعترف الكثير من سكان عمّان بهويّتهم العمّانية، بل احتفظوا بانتمائهم إلى أحد المكوّنين؛ الأردني الذي يرجع إلى السلط أو الكرك مثلاً، أو الفلسطيني، والآن هناك تجاوز من قبل الجيل الجديد من هذه الفئة ليشكل مجموعة جديدة تعيش خارج إطار الأصل الأردني/الفلسطيني على الرغم من التوتّر الذي يسببه ذلك في الكثير من الأحيان، ويعترف بعمّان كهوية جديدة على الرغم من صغر حجم هذه المجموعة.
لا تدري صوالحة كم من الوقت ستستمر هذه الهوية، حيث أن الأمر لا يخلو أيضاً من آثار سلبية في محيطها وعلى سكان المناطق التي تشهد تغييراً سكانياً لافتاً ونمط حياة مختلف، وخصوصاً ما يعدّ استطباقاً (Gentrification) يصعب التحكّم به، على غرار ما تشهده العديد من المناطق الحضرية في مدن العالم. من الواضح أن عمّان قيد تغيّر وتشكل كبير مستمر منذ فترة، والأجدى متابعة ودراسة ذلك الآن.