موقع أرنتروبوس

أنثروبولوجيا العنف والصراع 3/3

معضلة الحرب

خبرات الحرب وأخلاقياتها في سراييفو

الفصل العاشر من كتاب “أنثروبولوجيا العنف والصراع”

تأليف: آفانا ماجك

ترجمة: د. هناء خليف غني

الجزء الثالث:

مرونة الزمن: لاحظت تون برنغا قيام مخبريها بالخلط بين أزمان الأفعال بعد أن طُردوا من مناطقهم بوسائل عنيفةٍ. ولاحظت كذلك ’أنهم كانوا يعيشون في زمن يتغير على نحوٍ درامي ودائم، زمن لم يكن متصلاً بالماضي، أو الحاضر أو المستقبل‘ (1995: 17). وأعتقد ان ما شهدته برنغا هو طبيعة الزمن في أثناء الحرب الذي لا يمكن التعبير عنه باستعمال مفردات زمن السلام. وللسبب ذاتهِ، لا يمكن لأولئك الذين تأثرت حياتهم بتجربة الحرب ان يحددوا بدايتها في نقطةٍ زمنيةٍ دقيقةٍ محددةٍ، إذ يرى هؤلاء أن الزمن قد اكتسب طابعاً مرناً مميزاً لنمط ’الفار من الخدمة العسكرية‘. وشيئاً فشيئاً تغزو الفوضى والاضطرابات تفاصيل الحياة اليومية المسالمة، وتتسارع التغيرات الواحدة تلو الأخرى حتى يصل المرء إلى تلك اللحظة التي يُدرك فيها أن ظروف الحياة قد تغيرت على نحوٍ لم يُعدّ بالإمكان معه تصورها بوصفها ظروفاَ للسلام. وفقط حينما يصل المرء إلى لحظة الإدراك هذهِ، يتمكن من تأمل الأحداث السابقة وتفحص الاضطرابات التي حلت بحالة السلام وتحديد الأهم بينها في ما يتصل بالأحداث التي ستقع له في قابل الأيام. وفي تلك اللحظة تحديداً، يتحول الأسلوب ’المدني‘ المميز للحياة السلمية إلى أسلوب ’الجندي‘.

وتعكس أدبيات الحرب في سراييفو اختلافاً بين الخيارات الفردية والسياسية الرسمية في ما يتصل بعملية إسباغ الأهمية على أحداثٍ بعينها. وخلافاً للكتاب الأجانب وكتب التاريخ المحلية التي تحاول تحديد بداية الحرب الحقيقية في وسط الأحداث السياسية والعسكرية الفاعلة في المستوى الدولي، تبدأ الحرب على نحوٍ عامٍ وثابتٍ تقريباً بالنسبة للسراييفويين في اليوم الذي تعرضوا فيه لقصف الطائرات لأول مرة. وثمة رسالة بعثتها إحدى النساء الشابات في سراييفو إلى أختها في زغرب في السادس من نيسان عام 1994 تبيّن ذلك على نحوٍ جلي(17):

هل تتذكرين الحيرة والارتباك اللذين شعر بهما جيراننا في رادجيفا حينما سألناهم، حال وصولنا إلى المكان، عن القبو في منزلهم، كيف يبدو؟ وطلبنا منهم السماح لنا بمشاهدته ؟ كان الأمر مثيراً للضحك، فبالنسبة لهم، لم تكن الحرب قد بدأت بعد-في السابع من نيسان عام 1992- فقط لعدم سقوط القذائف في فناء دارهم. ولكننا، نحن الذين لم نكن نبعد عنهم سوى عشرين دقيقة، قد علمنا سلفاً ماذا يعني أن تقضي أربعين ساعةً في قبو باردٍ مزدحم يغص بالجيران، من الأطفال الرضع إلى الكبار الذين شارفوا على السبعين. (سوفتج 1994: 11- 12، المقطع من ترجمتي).

وعلى الرغم من الإجماع شبه العام على تاريخ السادس من نيسان عام 1992 والأحداث التي وقعت فيه بوصفها البداية الحقيقية للحرب، يذكر غالبية الأشخاص الذين تحدثت إليهم وسألتهم عن البدايات الحقيقية للحرب من وجهة نظرهم تاريخاً آخر هو آذار 1992، أو ربما قبل ذلك بقليل. وأتفق جميع الأشخاص على الحديث عن مواجهاتهم الأولى مع العنف غير المشروع أمثال الثكنات العسكرية وحواجز التفتيش التي نصبها الجنود الملثمون الذين أتضح في ما بعد أنهم الصربيون لاسيما الصربيون من خارج المدن، أي القرويون والبدائيون وغير المتحضرين ’والآخرون‘ في شهر آذار من ذلك العام. كما يتذكر هؤلاء مواجهاتهم الأولى مع رموز القومية الصربية أمثال تقسيم الشركة على طول خطوطٍ قوميةٍ مثلما لاحظنا في قصة الراوي الرئيس، أو الاستعراض المستفز وغير المبرر للرموز الصربية كما في حالة حفل الزفاف الصربي الذي صُوِر في آذار. وبالمثل يتذكر السراييفويون بداية انهيار البُنى القانونية والسياسية وحالة التخبط في السياسات والمصالح القومية التي هيمنت على برلمان البوسنة والهرسك المشترك. وأخيراً، لا ينسى السراييفويون، في حديثهم عن بداية الحرب، الإشارة إلى الانهيار التدريجي في مفاصل الحياة التي كانوا معتادين عليها من قبيل توقف المواصلات العامة عن العمل ومغادرة الجيران وتوقف الأعمال والأنشطة التجارية.

ولهذا تنطوي مسألة تحديد بداية الحرب، بالنسبة للفرد، على جوانبٍ عدةٍ معقدةٍ، ففي حين يراها البعض (لاسيما الأشخاص الذين يوظفون الأسلوب المدني) بوصفها مجموعة من الأحداث المحيرة وغير المفهومة، تمحور تصور البعض الآخر عن بدايتها حول التاريخ الذي أدركوا فيه للمرة الأولى الخطر الجسدي الفظيع الذي يحيق بهم (على وفق أسلوب الجندي)؛ وكما جرت العادة، سيجري تذكر تاريخ بعض الأحداث السياسية والعسكرية ذات الصلة المباشرة بالحرب وتخليدها (على وفق الأسلوب ذاته). وسيحاول غالبية الناس نسيان الحرب بوصفها خبرة فردية بما أن الطبيعة الملتبسة لهذه الخبرات (أي بداية الحرب التي تشرع تدريجياً في التسلل إلى مفاصل حياتهم المدنية) تزيد من صعوبة استدماج هذه الخبرات في مواقف حياتهم الحالية (أسلوب الفار من الخدمة).

فوضى واضطراب لا معنى لهما: تغدو فكرة ’الجندي‘ عن الحروب بوصفها أحداثاً منطقية يتحكم بها البشر، وأحياناً تكون مدعاةً للفخر(18)، وتعمل على وفق قوانين خاصة بها، ولها أهداف مشروعة وأطراف متصارعة منخرطة فيها، تغدو سخيفة وبلا أساس يدعمها بالنسبة للناس الذين يعانون ويلات الحرب لأن خبرات الحرب، جميعها بلا استثناء تقريباً، هي خبرات غير متوقعة. وفي هذه المواقف، يفقد المنطق الذي يشكل أساس الشعور بالخوف والعنف والدمار أهميته (قارن مع نوردستروم و مارتن 1992: 13؛ غرين 1994: 250؛ وارن 1993: 3؛ فضلاً عن بعض القصص والأفلام المناهضة للحرب)(19). وقد أورد الراوي الرئيس مثالاً لموقفٍ لا يمكن فيه تفسير حالة الاضطراب التي عمت الحياة – الموت تحديداً- بمجرد الاستعانة بقواعد الحرب أو منطقها:

س: يمكننني أن أورد لك مثالاً واحداً. في وحدتي العسكرية القديمة، كان هناك فتى من ملجأ الأيتام الواقع قرب مقار الجيش الرئيسة. وكان لديه أخٌ وأختٌ في الملجأ. وكان ولداً لطيفاً وصالحاً، خائفاً وشاباً، إذ بلغ للتو الثامنة عشر من عمرهِ. وبعد انتقالي من الوحدة، سمعت بمقتله في مكانٍ ما في فوغوسجا(20). كان الثلاثة، بسذاجةٍ وطيبة قلب، يتمشون في أحد الحقول حينما قصفهم أحد المدافع المضادة للطائرات…. أصيب الشاب في أعلى الفخذ، ولم يكن بمقدورهم نقلهِ إلى المستشفى بسبب القصف. ولهذا، قرروا الاختباء لبعض الوقت، فأستمر الشاب ينزف حتى الموت. وكان له رفيق حاول مساعدته عن طريق استخدام الخبز الذي بحوزته للضغط على الجرح وإيقاف النزيف. غير أن ذلك لم يجد نفعاً، فمات الشاب. وما يؤلم حقاً في هذه القصة هو فقدان أخته وأخيه اللذين كان يرعاهما لهُ – كان بمثابة الأب والأم لهما.

إن المرور بتجربة موت شخصٍ عزيزٍ عليك تبدو تجربةً قاسيةً ومؤلمةً بحيث لا يمكن لأي سبب أو منطقٍ تبريرها أو التخفيف من وطأتها (قارن كذلك مع موروكفاسج 1998: 66). وكلما طالت الحرب وازدادت الخبرات التي يكتسبها الفرد، يغدو واضحاً عدم قدرة أسلوب ’الجندي‘ في التفكير على الصمود. وبالإمكان القول، أن بروز أسلوب ’الفار من الخدمة العسكرية‘ يُعدَّ إيذاناً بحدوث ذلك، أي فقدان أسلوب الجندي قدرتهِ على الإقناع. 

تضادات ولاتساوقات وخيبة أمل: عموماً، يلاحظ حضور ظاهرة التعارض مع أسلوب ’الجندي‘ في المستوى الشخصي لخبرات الفرد وعلاقاته. وتهيمن في هذه المرحلة مشاعر الخوف وعدم الشعور بالأمان في ما يتصل بمعرفة الصح من الخطأ، ومحاولة معرفة السبب في حدوث كل هذه الأحداث المفزعة وفهم خيارات الآخرين على الرغم من اختلافها عن الخيارات الشخصية.

وفي هذه المرحلة تحديداً، أدرك العديد من الأشخاص أن الدفاع والوحدة الوطنية اللتين يقاتلون باسمهما ما هما سوى كلمات جوفاء تنطلق من أفواه السياسيين الذين لا يضحون بأنفسهم في سبيل القضية ذاتها. وأصبح الناس يتفهمون موقف أولئك الذين لم يكونوا يرغبون في القتال لأجل القضية، وبدأوا يلاحظون احتمال مواجهة العدو، لا سيما الجنود، موقف مماثل لموقفهم. ولذا، بدأ الراوي الرئيس يتساءل ويشكّك في طبيعة هذا التقسيم الدقيق إلى أطرافٍ صربيةٍ ومسلمةٍ وجدوى إلقاء اللوم على الصربيين جميعهم فضلاً عن عبثية أن تكون جندياً. وحينما أتى على ذكر جيرانه وزملائهِ المقاتلين، تحدث الراوي بأسلوبٍ ينم عن عمق تفهمه للأسباب التي دعتهم للمغادرة وجعلتهم يشعرون بالخوف وقرارهم عدم حمل السلاح. وهنا، فقدت الحرب معناها، وبالمثل، فقدت التفسيرات على وفق أسلوب ’الجندي‘ فاعليتها.

س: غادر أحد جيراننا الصرب في مرحلة متأخرة من الحرب. ببساطة، لم يكن الرجل يريد الانضمام للجيش، ولذا، قالوا لهُ، ’حسناً، لن تحمل السلاح، ولكنك ستحفر الخنادق‘. وأعتقد أنه لم يكن يرغب بفعل ذلك أيضاً، ولذا، غادر المنطقة. وكان حفر الخنادق هو اسوأ ما يمكن أن يُكلف به غير الجنود، والسبب في ذلك اضطرارهم إلى العمل في منطقةٍ مجهولةٍ تماماً بالنسبة لهم. حينما كنت في ’خط المسؤولية‘، كنت أعرف المواقع التي أكون فيها محمياً والأماكن التي أكون فيها مكشوفاً للعدو. ولكن هؤلاء كانوا من خارج المنطقة ولا يعرفونها، ولم يخبرهم الجنود الذين يتولون الحراسة في خطوط القتال الأمامية ما هم بأمس الحاجة إلى معرفتهِ. ولهذا، كان هؤلاء معرضين على الدوام لمختلف أنواع المخاطر، وقد توفي البعض منهم بعد إطلاق القناصين النار عليهِم أو جراء انفجار قنبلة يدوية الصنع. وكانت هناك وحدات الدفاع المدني التي جاءت لحفر الخنادق لنا. غير أن حفرهم كان بلا معنى وبلا فائدة، بل أنه زاد الوضع سوءاً. ولكني، أتفهم موقفهم، كانوا يريدون تمضية اليوم فحسب، جاءوا ليحفروا ليومٍ واحدٍ فقط. وكنا نحن الجنود نمضي وقتاً طويلاً في الحفر، جميعنا بلا استثناء. كان على كل جندي تأدية واجبهِ في الحفر. حسناً حفرنا الخنادق لأنفسنا، وكلما حفرت أكثر، كان ذلك أفضل لك وللجنود الآخرين.

وحينما اخترقت قذيفة مضادة للدبابات شقتي، كان الجار الصربي من أوائل الذين هرعوا إلى الشقة للمساعدة في تنظيفها وترتيبها. وكان برفقته رجلٌ أخر غادر مع عائلتهِ، كانا رجلين صالحين لا بسبب مساعدتهما لي، وهذا ما كنت اعتقده في بادئ الأمر. كان جاري الصربي يتقن تصليح الأشياء، فقد كان مهندساً كهربائياً. وكانت لديه الأدوات اللازمة . ولذا، كنت كلما أحتاج شيئاً، أتوجه إليه طلباً للمساعدة، وكنت كلما أخبره أني لا أستطيع إصلاح هذا الشيء أو ذاك، كان يبادر إلى تعليمي. كان هذا الجار على أهبة الاستعداد لتقديم المساعدة لي.

وفي حديثه عن جارٍ صربي آخر، أظهر الراوي تفهماً إنسانياً في حكمه الأخلاقي على قرار الجار مغادرة المنطقة. وفي واقع الأمر، فقد اعترف أن قراره الانضمام إلى جيش البوسنة والهرسك كان خاطئاً:

س: غادر جاري في نهاية فصل الصيف عام 1992، وكانوا قد قضوا بعض الوقت هنا. كان الأمر غريباً، فعلى حد علمي، لم يكن هذا الجار ينوي الانضمام إلى أي من الوحدات العسكرية في المنطقة. في واقع الأمر، لم أكن أعلم شيئاً، إذ لم يكن بمقدور أحد التحدث بصراحة حول هذه المواضيع؛ لأن هناك العديد من الأشخاص الذين يحاولون التهرب من الخدمة العسكرية، ولا يتعلق الأمر بالصربيين فحسب، بل وبالمسلمين كذلك. كانوا أذكياءً، فعلاً. أذكياء، أغبياء، لا أدري، نعم، أنهم أذكياءً، هذا ما أفكر به حاليا. وحينما تفكر بجميع الأشياء والحوادث التي وقعت، تدرك أن غالبية السياسيين يتحدثون عن شيء ويفعلون شيئاً أخر. أنهم يخبئون أولادهم أو يرسلونهم إلى الخارج، أو يجدون لهم عملاً في مكان ما بعيداً عن المخاطر وساحات القتال. ولهذا، أقول أن الأمر لا يتعلق بالصربيين فحسب. حاول أغلب الناس، حسناً ليس أغلبهم، ولكن عددٌ كبيرٌ من الأشخاص الفرار من الخدمة العسكرية حمايةً لأنفسهم. وكان هذا هو الموقف الذي اتخذوه تحديداً في بداية الحرب بسبب عجزهم عن فهم حقيقة الوضع، ولأن ما سيحدث في حال بقائهم يعتمد على شخصٍ آخر. ولكن من هو هذا الشخص؟ أعني، أنك إن لم تنضم إلى القوات وتقاوم، فأنك تعلم ما سيحل بك. سيأتي العدو الى منزلك، وكافة المعضلات الأخلاقية الأخرى ستكون في انتظارك.

يتحدث الراوي الرئيس في هذا المقطع عن المعضلة الأخلاقية التي عاناها وعن نتائج اختياره البقاء. فبعد وصفه لعدم مصداقية القضية الوطنية وصحة اتخاذ الناس لقرار الفرار من الخدمة العسكرية، عاود مرةً أخرى استعمال تبريرات الحكومة البوسنية وأفكارها لتبرير اختياره العمل جندياً. وهذا التأرجح الأخلاقي بين أخلاقيات ’الفار من الخدمة‘ و ’الجندي‘ هو ما يميز روايات الحرب التي يسردها الأشخاص الذين ينخرطون، وجودياً، بها.

وحينما أدرك الراوي صحة القرار الذي اتخذه هؤلاء الأشخاص والذي فروا، بموجبه، من الخدمة العسكرية، قرر هو ذاته التخلي نهائياً عن قضية ’الجندي‘. وتمكن، في نهاية المطاف من العمل على وفق إدراكه الجديد هذا:

س: بقيت في ’خطوط الانفصال‘ هذه حتى العام 1994 حيث واصلت العمل في الوحدة العسكرية ذاتها، ولكن ليس في التشكيل القتالي. ذهبت إلى الآمر، إلى القسم المالي وعملت محاسباً، ونفذت بعض عمليات البرمجة، أنقذت نفسي. هذا ما فعلته، ونأيت بها عن آتون المعارك.

وهكذا، تدرجت عملية ’الفرار من الخدمة العسكرية‘ التي قام بها الراوي الرئيس من خيبة الأمل في القضية الوطنية، إلى التخلي عن إطلاق الأحكام الأخلاقية على الناس الذين يحيطون به بالاستناد إلى قوميتهم حصراً – يمكن أن يكون الصربيون صالحين وجديرين بالثقة في حين يُحتمل أن يكون المسلمون سيئين ومستعدين للغدر بك. وعليه، فأن عملية ’الفرار من الخدمة العسكرية‘ هي نتيجةٌ مباشرةٌ للتخلي عن القضية والأخلاقيات (الوطنية) الخاصة بأسلوب ’الجندي‘.

تداخل الحدود الفاصلة بين الأسلوبين المدني- الجندي: لم تشهد المراحل التالية للحرب انهيار الإحساس بالعدالة فحسب، بل كذلك تداخل الحدود الفاصلة بين الحياة في جبهات القتال والحياة العائلية. وقد تجلى هذا الأمر بوضوحٍ في رواية الراوي الرئيس الذي برهن مرةً أخرى على أن التقسيم السائد بين ’المدني‘ و ’الجندي‘ (كما في أسلوب ’الجندي‘) لا يتوافق وخبرة الحرب:

س: توجهنا إلى خطوط القتال وعملنا على وفق نظام المناوبة – خمسة أيام في الجبهة وعشرة أيام استراحة في المنزل، وكانت الفوضى هي السمة الملازمة لحياتك في البيت، فأنت قادم من ظروفٍ صحيةٍ مريعةٍ، وتنام لمدة خمسة أيام في منازلٍ نصف محطمة، مهجورة وقذرة، وتشعل النار في أفرانٍ تتداعي وتحفر الخنادق من دون أن تتاح لك الفرصة للاغتسال. ولذا، فأن أول شيء تفكر بهِ حال دخولك المنزل هو الاغتسال في الحمام. ولكن ماذا عن هذا الحمام؟ أنهُ بلا كهرباء أو غاز لتدفئة الماء. ليس لديك سوى قطعة خشب صغيرة. كنت معتاداً على خلع ملابسي بعد دخولي قاعة الطعام مباشرةً والتوجه إلى الحمام الذي كان شديد البرودة في الشتاء. تضطر الى الاغتسال بسرعة، ثم تجد في انتظارك جميع أنواع الأعمال المنزلية. وأول شيء كان ينبغي لي القيام بهِ هو جلب الماء الذي يستغرق مني يوماً بأكملهِ. والأمر ذاته يتكرر قبل التوجه إلى الجبهة. وكان هناك دائماً حشدٌ من الناس ينتظرون جلب الماء. وكان الناس متوترين وخائفين من استمرار القصف. وكنت أدرك ضرورة تمسكي بموقعي في صف الانتظار حينما تقع قذيفة، لأنك إن تركت المكان بعد انتظار ساعتين، ماذا يحدث عندها؟ تفقد فرصتك. ينبغي لك الحصول على الماء، كان هذا أسوأ ما في الأمر، جلب المياه من مصنع البيرة.

وشيئاً فشيئاً، يغدو الاختلاف بين خبرة الجنود والمدنيين عن الحرب مصطنعاً. فبالاستناد إلى ما ذكره الراوي عن خبراته في الحرب بصفته مدنياً وجندياً، يغدو واضحاً تداخل الحدود الفاصلة بينهما. فحياته مهددة في كلتا الحالتين. غير أن أسوأ ما في الأمر هو جلب الماء حينما يكون مدنياً. من جانبٍ آخر، يلاحظ نجاح الراوي في تلبية متطلباتهِ الاجتماعية على نحوٍ أفضل كونهِ جندياً.

س: لم أذهب إلى الجيران [حيث تجتمع غالبية النساء] لشرب القهوة أو الحديث. تعبت من الحديث. كان بمقدوري إشباع الجانب الاجتماعي من احتياجاتي في خطوط القتال، إذ لديك ما يكفي من الوقت في الأيام الخمسة التي تقضيها هناك للحديث وتغيير مسار الأفكار في ذهنك. ولذا، لا أفعل شيئاً عادةً، أبقى في المنزل واستمع إلى الأخبار، وأتأمل في الظلام، بلا هدف.

الشعور بالعجز والإذلال: بينما تتعزز الأدلة المؤكدة على عدم مصداقية أسلوب الجندي في تصور الحرب، تمسي الحرب ذاتها وقتاً ضائعاً لا معنى لهُ، ينفقه المرء في صراعٍ مريرٍ للبقاء، ومشحونٍ بمشاعر العجز والإذلال واليأس. ولأجل البقاء على قيد الحياة، يطور الناس بعض الخصائص التي لم يكونوا يحلموا يوماً في تطويرها من قبيل القابلية على العيش والتعايش مع معرفتهم إن كل لحظة قد تكون اللحظة الأخيرة في حياتهم، وهم، برغم ذلك، يأوون إلى الفراش مساءً، وينامون منهكين من التعب وغير آبهين بالانفجارات أو مكترثين للأخبار اليومية حول الموت والموتى. وبينما كان الناس يحاولون الحفاظ على أكبر مقدارٍ ممكن من تفاصيل حياتهم ما قبل الحرب، كانوا يشعرون بالحرج والارتباك من عدم إحساسهم بالخطر والموت الذي يحيط بهم فضلاً عن الظروف المذلة الأخرى ذات الصلة بالمشاعر التي تجيش في صدورهم والأشياء التي يفعلونها. وتُعدّ مشاعر الإذلال من المشاعر المميزة للمواقف التي تضطرب فيها الأشياء التي كانت تُعدّ في السابق جزءاً من الحياة الإنسانية العادية الكريمة.

تضامنات وتحالفات بديلة: على أثر تنامي الوعي بالأسباب التي دفعت الصربيين إلى اتخاذ هذه الخيارات، وتعمق الإحساس بخيبة الأمل في القضية الوطنية المسلمة، تحول تعريف ’مجموعة الـ نحن‘ من ’نحن المسلمون لنا ينبغي حماية أنفسنا من الصربيين‘ إلى ’نحن السراييفويون المثقفون من الطبقة الوسطى‘ أو ’نحن الذين لا نريد حمل السلاح‘. وبينما أضحى أولئك الذين كانوا يُعرفون، رسمياً، بأنهم ’الآخرون‘ مرةً أخرى، وعلى نحوٍ شخصي، جزءاً ’منا – نحن‘، يتلاشى الحد الفاصل بين الأطراف المتصارعة، وتزداد صعوبة صمود الشرعنة الرسمية للقضايا والتفسيرات الوطنية التي تقدمها الأطراف المتصارعة لتبرير انخراطها في الحرب.

ويسهم الإطار الذهني هذا في ظهور أنواعٍ أخرى من التجمعات تمثل أكثرها قوةً ووضوحاً في رابطة العيش معاً التي جمعت الناس في سراييفو أبان الحرب. أما الرابطة الاجتماعية القوية الأخرى فجمعت بين مواطني ما قبل الحرب السراييفويين. كانت هذه الرابطة بمثابة رد فعل اجتماعي على التغيرات  الهائلة التي طرأت على البنية الديمغرافية (السكانية) جراء تدفق ما يقارب المائة وخمسين الفاً من ’المُهجرين في الداخل‘ إلى المدينة بحسب تقارير الأمم المتحدة. وكان غالبية المُهجرين مسلمين من القرى البوسنية الشرقية، وهو حدثٌ أسهم في إثارة مشاعر الاستياء في أوساط المواطنين السراييفويين ذوي التوجهات العلمانية.

معضلة الحرب: في مستهل هذا الفصل، طرحت سؤالاً عن الطريقة التي تُسهم فيها خبرة الحرب في تغيير الطرائق التي نعتمدها في تصورها. وبغية الإجابة عن هذا السؤال، قدمت نموذجاً مؤلفاً من ثلاثة طرائق مختلفة أخلاقياً لتصور الحرب؛ وهذه الطرائق تشكل الأساس للأساليب المختلفة التي نعتمدها في اختيار أفعالنا الاجتماعية وأسلوب شرعنتها. وفي حين بالإمكان العثور على أسلوبيّ ’المدني‘ و’الجندي‘ في الأماكن كافة، تبيّن أن أسلوب ’الفار من الخدمة العسكرية‘ في تصور الحرب هو الأسلوب المميز للأشخاص الذين خبروا الحرب. وعليه، تسهم خبرة الحرب في تغيير طرائق إدراكنا لها عن طريق إضافة أسلوب أخلاقي ثالث ينبغي اعتماده في تصورها. وفضلاً عن ذلك، لاحظت، في أثناء الحرب في سراييفو، التداخل بين هذه الأساليب طبقاً للسياق والظروف السائدة. فكلما كان السياق عاماً ورسمياً، كان الأسلوب ’الشبيه بأسلوب الجندي‘ أكثر أخلاقية. ولذا، اختتم حديثي بالقول أن خبرة الحرب تجبرنا على اتخاذ خياراتنا الأخلاقية الشخصية في كل موقف من المواقف المختلفة. وإذا أدركنا هذه الحقيقة، يغدو صعباً التملص من مسؤوليتنا الشخصية عن الخيارات التي نتخذها والأفعال التي نؤديها.

وقد لاحظت نقاشاً مماثلاً إلى حدٍ ما في أعمال زيغمونت بومان(1989، 1991، 1992، 1993)- أحد أعظم المحللين الاجتماعيين المعاصرين للهولوكوست- الذي يبدو إصراره على الأصل ’ما قبل المجتمعي‘ ’للواجب الأخلاقي‘ الإنساني المستند إلى ’المسؤولية البشرية الجوهرية حيال الآخر‘ (1989: 198- 199)، أصولياً للبعض، أو على الأقل غير مبرهن عليه علمياً، أو أنه يمثل مسألة اعتقاد أكثر منهُ تحليل علمي. وهذا قد يكون صحيحاً إلى حدٍ ما، ولكن ينبغي توخي الحذر وتجنب تجاهل بعض الأفكار بوصفها مسائل إيمان أكثر منها مسائل علمية لا لسبب إلا لأنها لم يبرهن عليها على نحوٍ كافٍ لحد ألان. وقد طرحت مقولة بومان هنا لشعوري بالارتباط الوثيق بين محاولته تسليط الضوء على السلوك غير العقلاني ظاهرياً الذي سلكهُ الذين اختاروا مساعدة ’الآخرين‘ وتعريض حياتهم الخاصة للخطر في أثناء الهولوكوست، وتحليلي للوضع في سراييفو في الدراسة الحالية. ففي المقام ألأول، يشترك كلانا في الفكرة القائلة أن الأفراد يواجهون خيار أداء الأفعال الاجتماعية والأخلاقيات (الأسلوب الأخلاقي) التي سيعتمدونها لشرعنة هذه الأفعال. وثانياً، لقد شهدنا على وجود قوةٍ (أو قوى) سياسيةٍ فاعلةٍ لم تُحدد لحد الآن. وهذه القوى تبدو غير عقلانية إذا أخذنا بنظر الاعتبار أطر التفسير الاجتماعية والسياسية المعروفة. وفي حالة سراييفو، يبدو ذلك واضحاً في ظهور أخلاقيات ’الفار من الخدمة العسكرية‘ وتصوراته عن الحرب.

إن أسلوب ’الفار من الخدمة العسكرية‘ هو أسلوب غير موجود عموماً في الخطابات الرسمية والسياسية الشائعة. وكما بينّت الين سكاري، فأن من يحوز القوة لإلحاق الأذى في مواقف الحرب هم أنفسهم من يحوزون القدرة على تعريف الحقيقة، أي الأخلاقيات. وهذا يسهم في حرمان الناس العاديين من القوة والسلطة اللازمتين، وهو بالضبط ما ترغب به النخب السياسية والعسكرية بالنظر إلى تشكيل ذلك أحد المتطلبات الأساسية للانخراط الناجح في الحرب. غير أن تحليلي للوضع في سراييفو يكشف عن أمرٍ أخر هو حقيقة أن الذين لا يحوزون القوة لإلحاق الأذى ليسوا بالضرورة واقعين على نحوٍ كامل تحت رحمة النخب السياسية – العسكرية، بل أنهم، في واقع الأمر، يحوزون  القوة اللازمة للفعل وتغيير ظروفهم المعيشية. والمثال النموذجي على ذلك هو الفرار من جيش البوسنة والهرسك الذي أصبح مقبولاً كونه إستراتيجية لإدامة الحياة في أوساط السراييفويين. وبالمثل، أضحى هذا الأمر مقبولاً في المستوى الجماعي المحلي، والذي أدى بدوره إلى إجبار السياسيين على التعامل مع قضايا الفرار بتفهمٍ وفي نهاية المطاف إلى إصدار العفو العام.

ولو لم يكن الأمر يتعلق بالتشابه مع أفكار بومان المعنية بوصف كارثة إنسانية رهيبة أخرى في القرن المنصرم، لربما كنت سأقتنع وأكتفي بوصف أسلوب ’الفرار من الخدمة العسكرية‘. ولكن، ومع وجود هذا التشابه، أجد من المناسب اقتراح تفسير محتمل لهذه الظاهرة. فقد لا يكون الأمر متعلقاً بالضرورة بالبنية الأخلاقية الأصلية المؤيدة للإنسان التي تشكل الأساس لظاهرة ’الفرار من الخدمة‘ في سراييفو، غير أن أخلاقيات الفرار تنمو قطعاً من القوة، من سلطةٍ سياسيةٍ كامنةٍ معارضة للقوى السياسية القائمة رسمياً. وربما بالإمكان وصف هذه القوة بقوة الحياة الاجتماعية–الثقافية السياسية التي غالباً ما يسود الاعتقاد أنها عاجزة سياسياً. وأرى أن هذه هي القوة السياسية التي ينبغي البحث عنها وفهم طبيعتها بغية فهم الحروب المعاصرة على نحوٍ أفضل، وبالتالي، البدء في تغييرها.

(أ) الجتنك: منظمة قومية وملكية صربية نشطت في النصف الأول من القرن العشرين. انخرطت المنظمة في أعمال إرهابية ضد الكروات في المناطق التي يقطنها الصرب والكرات وضد المسلمين في البوسنة والهرسك في الحرب العالمية الثانية. وكان المسلمون أهدافاً رئيسة لإرهاب الجتنك نظراً للعداوة التقليدية في ما بينهم والصربيين. 

 

Exit mobile version