موقع أرنتروبوس

أنثروبولوجيا الرواية في «يحيى» لسميحة خريس

 

د.سلطان المعاني

الرأي – واقع رواية سميحة خريس الأخيرة “يحيى”، بطولة شعبية أفرزت “يحيى” مثالا للمقاوم والرافض والراغب في الانعتاق وسط سنابك خيل العكسر ومرض وفقر وتبعية ثم جهل وأمية ومشاكل اجتماعية واقتصادية وسياسية استمرأ الناس أمامها عجزهم فاستكانوا لها.
فالطفل الذي يتسلل إلى السور يتفرج على “هفوف” وهي تتمايل في بيت القائمقام “كارتال”، غدا صاحب الفعل في التصدي للاختلالات حين اشتد عوده وتفتحت مداركه، فالطفل الخارج من بطن الموت؛ موت الإخوة عند الولادة، وموت الجائحة، ثم موت الضحية الأم التي أعلنت بداية موتها ليحيا “يحيى”، هو ذاك الرجل الذي قضى وقد خلّف فكرا خلافيا، فكأنما الذي نجا من موتِ ولادةٍ محتم مضى إليه لتكتمل اعتياديته حين بات موت معتقد.
جاءت رواية “يحيى” رواية تاريخ اجتماعي، بل لعلها تقع في التصنيف الأدبي الأنثروبولوجي الذي يراعي التوازن بين تاريخية المعلومة ومشاهد الواقع المعاش في منهج علم الآثار الإجتماعي، مع حضور عناصر الرواية المختلفة، وهو ما بعث، مرة أخرى، الحياة في الجغرافيا التاريخية لفترة القرنين السادس عشر وبداية السابع عشر الميلاديين في الأماكن التي تَنَقَّلَ بطلُ الرواية “يحيى الكركي” فيها أو عاش.
لقد استطاعت الأديبة الأردنية سميحة خريس أن تحيي الذاكرة الفردية والمكانية والمجتمعية، وترتق ثقوب تراسل الأحداث ومنطقيتها في تلك الحقبة من التاريخ، حيث اعتمدت على الحقيقةِ، والواقعِ، والوثيقةِ، والسرد والخيال، فاحتشدت كل العناصر التي تضبط جدلية العلاقة بين الإنسان من جهة وبين التاريخ والإبداع السردي من جهة أخرى. وكانت رواية “يحيى” في بنيتها الزمنية وفضائها المكاني وأشخاصها أقرب ما تكون إلى الحقيقة والواقع، فقد بنت أحداثها من مركزية حقيقة الحدث إلى الحدث المتخيل والمفترض المنسوج تحقيقا للواقع أو خلق عالمه الموازي، بمعنى أن رواية “يحيى” هي “يحيى الكركي” ذاته، وهي في اللحظة نفسها رواية تحكي تاريخ سميحة خريس السابق لذاتها، فرواية “يحيى” حقيقة أثارت الحاضر لنقرأ فيها ذواتنا السابقة.
راحت الروائية إلى جغرافيا الحدث، وأبحرت في الزمن في اتجاهه العكسي وحفرت معرفيا في بطون الكتب، وقد عزّت فيها المعلومة عن “يحيى الكركي”، فلم تجد لها بكثير من المعلومات عنه، وقد استعانت خريس بمؤثثات العمل الروائي من رصد للحياة الاجتماعية في تلك الحقبة، ومن محاكاة للواقع وإسقاطه على الماضي في حالة ما يفعل عالم الآثار الاجتماعي، وقسمت عملها إلى أقسام اتكاءً على معياري الزمان والمكان، ثم استقام لها استخدام أدواتها الإبداعية من توظيف للموروث الشعبي ومن وصف دقيق استفادت فيه من تجاربها الابداعية السابقة في توصيف القرية الأردنية إبان الفترة العثمانية، ووظفت وعيها السياسي والفكري في بناء هذا العمل الكبير حجما ومضمونا، وقد وفِّقت خريس في التغلب على حجم الرواية بتقسيمها فصولا تضبط الرواية في جغرافيتها وزمانها الحقيقين، وفيهما وفق الزمان التاريخي الحقيقي والخطي الروائي، والمكان الروائي الذي ينسجم مع رحابته واتساعه حيث ولد وعاش ومات يحيى.
وإذا كانت الرواية في بنائها العام وأدواتها تعيد إنتاج الوعي وتجسد رؤية توثيقية للعالم وفق الأنساق الاجتماعية والدينية والتاريخية والأخلاقية والنفسية، فهي القادرة أيضا على استيعاب الإنسان بمكوناته الشخصية والمكانية والزمانية، كما يرى د.شكري عزيز الماضي. وهذا فيما أحسب منهج يبتغي مقابل منهج الحفر المعرفي الميشال فوكو جعل الوحدات الخاصة الجزئية لبنات ترفع مداميك البناء ليصل إلى الشكل الشمولي ذي الوظيفة والنمطية المبتغاة عند الروائي والمتلقي والناقد.
ومن خلال هذا الوعي نتساءل في ما إذا يجوز لنا محاكمة الروائي محاكمة المؤرخ؟ وإخال أنه لو أفتي لنا بذلك لما كنا قد قرأنا “يحيى”، ولما قدر لصاحبة “يحيى” أن تكتب هذا العمل الضخم، فلقد عزّت علينا كتب التاريخ بالمعلومة عن “يحيى”، كما الحال عن سواه من الشخصيات التاريخية الشعبية، إذ لم تستطع المصادر التاريخية أن تحفظ لنا عن شخصية “يحيى” سوى النزر اليسير، تمركزت حول مواقفة الدينية وموقف السلطة العثمانية منه وإعدامه، علاوة على غياب النصوص التاريخية والسردية عن الفترة التي عاش فيها وعن بيئتيه الجغرافية والبشرية. فكان العمل نسجا روائيا قائما على البناء الدرامي بمكوناته من جانب، متكئا على المكون الموضوعي من جانب آخر، فالزمن تاريخي (ماضٍ) واقعا، والواقع قريب من حقائق الفترة منسوج دراميا وفق أدوات المبدع وخياله ليكون أقرب ما يكون إلى مجتمع الحالة، أو لنقل إنها تبني مجتمعا روائيا موازيا له، تسوق مساراته عبر أدواتها هي، فتبث في المعلومة حياة المعاش عن طريق ربط الأحداث في بناء حكائي وسردي وحواري.
تعكس الرواية البيئة التي عاش فيها “يحيى” مصورة قهراً وعنفا مفروضين من فقر وخضوع ومرض وخوف من المجهول. فظروف الحياة التي يعيشها ناس الرواية تصور أبعادا علائقية جدلية على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والأمنية والإنسانية مع البنية المؤسسية المتمثلة في الدولة العثمانية.
وفي وقتٍ لا يشكل فيه الفرد في المجتمع آنذاك عنصرا محوريا، كان “يحيى” يثور على الحالة، ويسعى للمحورية والتغيير، فتوازنه لا يكتمل بالتماهي في الجماعة، ولا يرى فعاليته في الشمولية التقليدية الطاغية للمحيط موقفا واستجابة. ورأى أن وجود الإنسان الظرفي يحتم عليه التفكير والعيش خارج هذا الإطار الشمولي الذي يظهره مهمشا يعيش حالة مأزقية تعرقل استمراره على نحو سوي فاستحال رافضا متهما مطلوبا للمحاكمة.. ليواجه السيف الذي يقدم رأسه على طبق يصرخ في وجه زمن التخلف والقمع، وهو ليس ببعيد عن جغرافيا مكاور التي قُدم فيها سَمِيُّه يوحنا المعمدان “يحيى” على طبق لـ”سالومي” مهرا لفجورها.
ولقد كان للحدث في رواية “يحيى” عِلَله وواقعيته وصيرورته التاريخية، حيث توقفنا الرواية عند محطات تعلن الحَواف وتشي بها، إذ تسيطر العلل الخفية على الأحداث فتشكلها فضاءات مفتوحة على الاحتمالات؛ المرض والموت والحزن والفجيعة، بينما، أيضا، التمرد والثورة والنهوض.
ونلاحظ في سرديات الحدث الروائي أن “يحيى” عاش قلقا متجذرا وإحساسا بعدم الأمان يوصل إما إلى الاستسلام لسطوة المحيط والظروف أو بضدية ذلك إلى التمرد والتصعلك، وفي ردَّي الفعل هذين نتلمس عشوائية واضطرابا ولا عقلانية. وهو ما جعل السيادة الجوانية فيه سيادة الإنسان الرافض رهين القلق والخوف الذي يذهب إلى ترسيخ فكرة انعدام كيان الفرد في ظل الجماعة الطاغية؛ سواء الاجتماعية أو الدينية أو الفكرية. لقد كان أشخاص الرواية أسيري غضب الطبيعة حولهم، والجوائح، تحكمهم الصدفة في أمنهم وسلامتهم ومرضهم، يقفون عاجزين أمام بيئتهم، فلا يعلمون لا كيف ولا متى ولا أين ستنال منهم. وما الموت في مستهل الرواية سوى فعل اعتيادي.. قريب منتظر، ودونما تحضير. فقد جاء حدثا يوميا استمرأته جغرافيا الرواية، يأتي دونما استئذان وكأنما تعود اقتحام حياة الناس فصار محتماً لا تستوي قيمة الحياة إلا به.. فتسوقه المبدعة سميحة خريس فضاءً وفراغاً وهشاشة على نحوه المجتمعي، وإبداعا على نحوه النصي.
ومن المشاهد التي تجلى فيها إبداع خريس، مشهد إعدام “يحيى” في دمشق، فتحس وأنت تقرأ هذا بأن الروائية تستحيل هنا ناشطة في حقوق الإنسان، تصور مشهد الإعدام حالة مستنكرة مهما كانت المبررات والأسباب والظروف. فتخالها تدافع في مرافعة ضد التاريخ والواقع الذي يصادر الإنسان حقه في التعبير، فكان ابن رشد، وكان الحلاج وقائمة كبيرة في المشهد التاريخي العربي والإسلامي والإنساني.
ولقد رأيت وأنا أقرأ الرواية أن “يحيى” لم يكن البطل المطلق فيها، فقد كان المكان بطلا، والزمن بحراكه المجتمعي بطلا، وكانت طقوس الحياة الاجتماعية والظروف السياسية والاقتصادية أبطالا. ولا بد أن هذا المدخل الإبداعي للرواية قد تداخل مع وقائع تاريخية اجتماعية عامة جسرت فيها خريس الهوة المعرفية بين واقع الحقبة الزمنية وبين زمن الرواية، والسبب في ذلك أن التاريخ المتوفر لدينا كان فقط يوم الثلاثاء الثامن من ذي القعدة سنة 1018 هجرية الموافق 1609 ميلادية، وهو تاريخ وفاة “يحيى”، أو إعدامه على وجه أدق في دمشق، كما في “خلاصة الأثر” للمحبي.. أما متى ولد فقد فرض النص الروائي نفسه علينا في جسر هذه الهوة وبناء لحمة العمل.. وكانت المرأة هنا حالة الإخصاب الإبداعي في رتق النسق التاريخي في النص الروائي، فقد نهضت الأم والأخت و”هفوف” صديقة الأخت و”جمان” الحبيبة، في إبراز النسق المجتمعي القائم في تاريخية الرواية والتي شكلت مدلاجا مضافا إلى الرواية، جنبا إلى جنب مع توصيف الجائحة التي فتكت بالأهالي، والغضب الذي تهطل مطرا.
الإبحار في رواية “يحيى” إبحار في جداول شتى، التاريخ عنوانها الأبرز، وفي حقبة غلب التاريخ الشفاهي فيها المكتوب، وحضرت الوثيقة مقابل السرد المكتوب، فالدولة العثمانية قبل أربعة قرون كانت قد انشغلت بإدارتها وسيطرتها على الرقاع التي اتسعت فيها دونما التفات حقيقي للناس واحتياجهم. ثمَّّ إن الكتابة عن شخصية شعبية أو محلية تاريخية صعب ووعر وعسير، يحتاج إلى بحث لحوح وصبر على الغوص في مضان المصادر والمراجع، وعين لمّاحة في التقاط النصوص وتفسير ظاهرها وتأويل باطنها، وإذا اجتاز الأمر النص التاريخي إلى الإبداعي فلا بد من جسر هوى المعلومات من خيال مشدود بين ذؤابة النص وواقعية الحدث، وهو ما يجسر الهوة المعرفية التاريخية من جهة ويسهم في النهوض بالسرد الروائي حالةً إبداعية.

Exit mobile version