موقع أرنتروبوس

أنثروبولوجيا الحدود في الوطن العربي

دراسة في الحدود السياسية والثقافية والهوية

د. عز الدين دياب/أستاذ في الدراسات الأنثروبولوجية – باحث في قضايا الأمة العربية المعاصرة (دمشق)

مسألة الحدود في الفكر الأنثروبولوجي – معلومات عامة

تحيلنا الأسئلة السابقة على كثرتها ومغازيها إلى الفكر الانثروبولوجي لنتبين معاني الحدود ومضامينها واستعمالاتها وما ترمز إليه من سلوك سياسي يقوم بين الأمم والدول، وبين الثقافات والشخصيات الاجتماعية.

نال مفهوم “الحدود” الأهمية التي يستحقها في الفكر السوسيو – أنثروبولوجي، وصار له مكانته في القانون والعلم الاجتماعي والسياسي. لأنه مفردة أو مصطلح له معانيه المختلفة من علم إلى علم آخر، ولأنه من صنع الإنسان يدخله في حساباته وتفكيره من أجل غايات ومنافع كثيرة ومتنوعة. فهو، كما أسلفنا، حمَّال لكثرة من المعاني والمضامين اللغوية والاجتماعية والثقافية. فهناك الحدود الجغرافية الطبيعية. والجغرافية السياسية، والحدود الثقافية، والحدود الاجتماعية.الخ..

في لسان العرب يأتي معناه ومغزاه بأن (2) “حدود: الحدَّ: الفصل بين الشيئين لئلا يختلط أحدهما بالآخر، أو لئلا يتعدى أحدهما على الآخر، وجمعه حدود. وفصل ما بين كل شيئين: حدَّ بينهما ومنتهى كل شيء حدَّه ومنه أحد حدود الأرض وحدود الحد، وفيه الحديث في صنعة القرآن: لكل حرف ولكل حد مطلع قبل: أراد لكل منتهى نهاية ومنتهى كل شيء: حدّه.

فلانّ حديد فلان إذا كان داره إلى جانب داره، وأرضه إلى جانب أرضه وداري إلى جانب دارك وتحاذيها إذا كان حدها كحدها.. وحَدَدَت الدار أحدَّها حداً . والتحديد مثله، وحدَّ الشيء من غيره يحدَّه حداً وحدَّده: ميَّزه. وحدَّ كل شيء.

(…) وحدود الله تعالى: الأشياء التي يبين تحريمها وتحليلها منها ويتجاوز إلى غير ما أمر منها أو نهى، عنه منها ومنع مخالفتها.

وفي معجم متن اللغة (3). الحدَّ: مصدر حدَّ إذا منع الحاجز بين الشيئين و– من كل شيء: منتهاه و– قصاص.

وحول تاريخ إقامة الحدود وتحت عنوان: الحدود السياسية في مفهوم الجغرافيا يقول محمد أزهر سعيد السماك (4) “ترجع فكرة إقامة الحدود إلى قرابة قرنين من الزمن، كما أن إجراءات السفر وما يرتبط بها من مشكلات التنقل من دولة إلى أخرى لم تكن شائعة حتى نهاية القرن التاسع عشر. والدول لم تعهد سابقاً، الخطوط للفصل فيما بينها، بل كانت متعارفة على إقليم الحدود أو النجوم كما تسمى، ولم يكن بينهما من هذه الأقاليم إلا نقاط معينه تنفذ من خلالها التجارة وتقام عندها الجمارك، وهذه النقاط هي الثغور أبَّان الدولة الإسلامية في القرون الوسطى. (…) والحدود في لغة الجغرافيا تعنى حافة الإقليم السياسي للدولة، كما أنَّ الحدود تسهم في خلق شخصيات جغرافية مميزة حضارية على جانبه (…) ويتضمن المفهوم التاريخي للحدود على أنها تمثل انعكاسات لتعامل الدولة وتوسعها وانكماشها وتجزئتها. وتعبر عن فلسفتها ودرجة قوتها أو ضعفها خلال مراحل زمنية متتابعة.

ويفرق السماك بين الحدود والتخوم ويقول عن هذه الأخيرة (5) أما التخوم فهي مناطق تمتد بين دولتين أو أكثر تمثل عامل فصل بين سيادتها، وهي في نفس الوقت ذاته نقطة وصل جغرافية لأنها تمثل منطقة انتقالية بين شخص الوحدتين السياستين. والتخوم إذن بيئة انتقالية لها أبعادها الجغرافية في الطول، كما في الاتساع. أما الحدود فهي خطوط لا أبعاد لها وتقسم التخوم كونها مناطق حدود إلى:

1 – منطقة حدودية: وهي التي يمر فيها خط الحدود.

2 – نطاق الحدود: وهي المنطقة التي تمتد على جانبي الحدود وتخضع كل منها لقوانين الدولة التي تنتمي إليها.

3 – الجوار، وهي المنطقة التي تضم القسمين السابقين.

وللتخوم معاني أخرى فضلاً عن معناها السياسي:

1 – التخوم الاستيطانية.

2 – التخوم التاريخية.

3 – التخوم العقائدية.

إذاً، فالحدود السياسية: (هي خطوط ترسم على الخرائط لتبين الأراضي التي تمارس فيها الدولة سيادتها، والتي تتمتع فيها هذه الدولة وحدها بحق الانتفاع والاستغلال، ويدخل ضمن أراضي الدولة ورقعتها السياسية المسطحات المائية التي نضع داخلها سواء كانت أنهاراً أم بحيرات أم قنوات (…) وطبيعة الحدود السياسية هي تقليل الاحتكاك والمنازعات بين الدول على أساس أن سيادة كل منها تتحدد بدقة وفق هذه الحدود، ولكن الواقع غير ذلك). أما الحدود الطبيعية فهي (6) (الحدود التي تتبع ظاهرات طبيعية مثل السلاسل الجبلية والأنهار والسواحل البحرية والبحيرات والمستنقعات).

أما في لغة القانون فالحدود (7) (تعني الخط الحاجز أو الفاصل الذي يعني المدى الذي تستطيع الدولة بسط سيادتها عليه، ويفصل بين سيادة دولتين أو أكثر).

أما في الأنثروبولوجيا فإن الحدود frontiers تستخدم (8) في دراسة العلاقة بين السلالات لتفسير التداخل – عبر الحدود – بين الجماعات الإثنية المختلفة، أو بين حاملي الثقافات المختلفة خلال عمليات الهجرة والتنمية. وقد تكون الحدود ديمغرافية – سكانية عندما يتوسع شعب أو تتوسع جماعة أثنية في داخل إقليم شعب آخر أو جماعة أخرى. وقد تكون حدوداً اقتصادية عندما يتم استغلال الإقليم بواسطة إقليم آخر، أو ضمه إليه بفرض استخراج ثروته، أو لأي أغراض اقتصادية أخرى. ويمكن أن تكون الحدود عسكرية أو سياسية إذا توسعت المؤسسات العسكرية أو السياسية في إقليم جديد. وربما تكون حدوداً إيديولوجية عند ممارسة أنشطة تبشيرية أو تربوية أو دعائية… الخ. ومن المحتمل بطبيعة الحال أن توجد كل تلك الأنواع المختلفة من الحدود في سياق أمريكي واحد.

ولا شك أن تنوع الحدود يساعدنا على فهم الجوانب المختلفة لعملية الاستعمار، أو سيطرة إقليم أو شعب على آخر. وتمثل العلاقات الاجتماعية الحدودية موضوعاً عظيم الأهمية لعلماء الانثروبولوجيا الذين يدرسون الاتصال الثقافي، والسلالي.

هدف الدراسة:

ترغب الدراسة أنَّ تقول إِنَّها ليست أكثر من بداية للبحث والتفصيل والتفسير في مسألة الحدود السياسية: قطر/ قطر الموجودة في الوطن العربي. حول ما إذا كانت هناك حدود ثقافية ناشئة أو متوارثة لـ: دولة / دولة بحيث تتحول إلى ثقافة / ثقافة في كل قطر من الأقطار العربية. ومخاطر هذه الحدود على الوحدة العربية إذا ما أخذت هياكلها وخطوطها، خاصة وأننا نلاحظ من خلال الشواهد – المشاهد التي جاءت في مطلع الدراسة أن الأنظمة القطرية تحاول إيجاد حدود ثقافة / ثقافة بحيث يصبح التنوع والاختلاف في الثقافة القطرية على حساب الثقافة القومية. أي أن تتفارق الثقافة القطرية مع الثقافة القومية إلى درجة الانقطاع الثقافي.

وإذا علمنا بأن هناك مراكز ومخابر أبحاث انثروبولوجية في الغرب والولايات المتحدة الأمريكية متخصصة ومتفرغة لدراسة الثقافة العربية، ومن بعد تفكيكها إلى كيانات ثقافية (ثقافة / ثقافة) تمهيداً لإنهاء فاعلية ووظائف العناصر الثقافية المشتركة بين الأقطار العربية، على طريق إلغاء الهوية القومية للقطر، بحيث يتحول القطر إلى: أمة، ويتحول الوطن العربي إلى أمم: أمة/ أمة. ودمج هذه “لأمم” المُتَخَيَّلة في مشروع “الشرق الأوسط الجديد” – القديم لتكون مستقبلاً تخوماً ومحيطاً للمركز (الكيان الصهيوني). نقول: إننا إذا عرفنا هذه الخطط والأهداف، أقصد علماء الدراسات السوسيو انثروبولوجية على اختلاف اختصاصاتهم وبحوثهم، ومراكز الأبحاث العربية على غرار مركز دراسات الوحدة العربية، فإنَّ عدة مهام تنتظر الجميع، وهي معرفة الآليات التي تمشي وتسير باتجاه تحويل الثقافة القومية إلى ثقافة قطرية. بمعنى أن كل ثقافة قطر عربي تتحول إلى ثقافة دولة: دولة /دولة – ثقافة قطر / ثقافة قطر. وتصبح ثقافة أمة (ثقافة أمة) من أجل وقف هذه العمليات. حتى يظل التنوع والاختلاف الوطني في الثقافة العربية عامل إغناء للثقافة العربية، كما كان في الماضي دائما، وكما يجب أن يكون في الحاضر والمستقبل.

إذاً، فإنَّ الدراسة لا تتقصد على الإطلاق الحدود الطبيعية، لأنها غير موجودة في الوطن العربي. أعني أنها غير قائمة بين البلدان العربية في المشرق والمغرب. وإذا كانت الدراسة تتوقف عند الحدود السياسية، فإنها تريد أن تقول بشأن الحدود السياسية مما له علاقة بالحدود الثقافية على ضوء الفرض الذي يقول إنَّ الحكومات والدول القطرية (قطر/قطر) تحاول بل تعمل، ومن خلال آليات كثيرة فرض ثقافة قطرية كسولة الخطى باتجاه الثقافة القومية إذا لم تكن مناقضة لها. حيث أنّ هذا النمط من الحدود هو الذي يُمَكَّنُنا من التوقف عند خطوط التقسيم، (9) التي ترسمها الحدود على خارطة الوطن العربي. وهذا معناه أنَّ من يقود خطى هذه الحدود يريد عن وعي وتخطيط مسبق أن تتحول: “حدود القطر/حدود القطر إلى حدود أمة/أمة. بعد أن تحولت إلى حدود: دولة / دولة وحدود: ثقافة / ثقافة. إنّ الأفكار السابقة توحي لنا بأن كل أمة تملك حقائقها التاريخية ومعالمها الحضارية والاجتماعية لها ثقافتها القومية. وهي المحدد الرئيس لأنماط شخصيتها الرئيسة بكل ما تملكه من معالم وخصائص. ومن هذه الثوابت نرفض الفكرة القائلة أن الأمم تتكون على أساس العامل العضوي – البيولوجي.

وحري بالقول إن ثقافات الأمم متجددة متطورة متغيرة، فيها التنوع والاختلاف الذي ينسجم مع معطيات العصور، وآليات الاتصال والمعارف والعلوم. وهذا حال الثقافة العربية، وإن كانت تتفرد بحكم التجزئة والتخلف التاريخي، والأنظمة القطرية، والتدخل الخارجي المخطط والمبرمج بنمو ثقافة قطرية : ثقافة / ثقافة جنباً إلى جنب مع حدود سياسية: دولة / دولة.

ويستبان أن الثقافات هي التي تحدد الهويات. هوية الأمم وشخصياتها الاجتماعية، وفي داخل الهوية العامة أو المنوالية توجد شخصيات اجتماعية قومية: محلية أو جهوية، وهويات مذهبية وإثنية. وكل هوية من هذه الهويات تشترك في جملة من القواسم المشتركة. وتفترق وتتنوع وتختلف في عناصر ثقافية خصوصية. لكن كل هذا لا يمنع على الإطلاق أن تكون بعض الهويات الفرعية – تنحو نحو الانغلاق والتعصب، وسيطرة الدوافع والاتجاهات الانعزالية. وهذا يحدث عادة بين الهويات من خلال إدراك الآخر بكل ما يحمله من معاني وأفكار ووجهات نظر واتجاهات. فالإدراك في هذه الحالة هو الذي (10) ((يعتبر أمراً أساسياً في تحديد هوية الذات)) لأن الهوية في كثير من حالاتها الثقافية، عملية اتصال وارتباط وتفاهم وتماثل بين مجموعة من الناس يعيشون داخل بقعة جغرافية محدّدة وخلال تاريخ طويل (11). ولذلك فالهويات تختلف و تتعدد بتعدد الأمم. فتصبح لكل هويـة نظامهـا الاجتماعي وأخلاقيات العمل والتعامل مع الآخر. ولها عاداتها وتقاليدها وقيمها وأعرافها وأنماط معينة ومعروفـة من السلوك الاجتماعـي وطرق التفكير، والنظرة إلى الوجود. ولها علاقاتها الاجتماعية. ولكن هذا لا يمنع من أن وجهات نظر فكرية عقائدية تحاول تصنيف الهويات تصنيفاً عرقياً أو دينياً. غير أن التصنيف الثقافي من وجهة نظر الأنثروبولوجيا هو الأكثر موضوعية ومنطقية. ونخلص مما تقدم إلى أنَّ الهوية ليست بنت لحظة محددة ثم تنغلق على نفسها. فهي تتكون على مدى أجيال، وكل جيل يحقق فيها إضافات مسترشدا بفلسفة الثقافة العامة لكل أمة، وخلال تاريخ هذه الأجيال المتعاقبة تمتلك الثقافة ثوابتها ويتم تسييدها من قبل أبناء الأمة بعد أن تضفي عليها الأجيال طابع التجانس، لأن الهوية أساسا تتشكل داخل حدود ثقافية وموضوعية وسياسية. وهي عبارة عن مناطق محلية جغرافية تترسخ فيها. وتتكون في الهوية مبدأ السيادة الذي يؤسسه الانتماء والولاء، ويصبح لها سياساتها، وقيمها الاجتماعية والأخلاقيـة.

ومن الطرافة بمكان القول بشأن الهوية العربية، إن هذه الهوية بكل دلائلهـا ومؤشراتها القومية، ورغم السياسات القطرية ونزعاتها ودعائمها الداخليـة والخارجية تقوى ويشتد فيها عامل الولاء القومي، والالتزام بأهداف الأمة العربية وخاصة على “الحدود” التي يقوى فيها التدخل الخارجي (حالة المغرب العربي) أو الاحتلال (حالة العراق) أو الاحتلال الاستيطاني (حالة فلسطين العربية) أو حالة القواعد العسكرية: (حالة الجزيرة العربية: الكويت، السعودية، البحرين، قطر) حيث نلاحظ في كل هذه الحالات اشتداد الولاء القومي له تجليات إسلامية والولاء للإسلام فيه تجليات عربية لا تحصى، وقوة الاتجاه الوحدوي ووضوح أهدافه وتطلعاته المستقبلية. لاحظنا ذلك من خلال نشوء تيارات قومية- إسلامية متشددة ضد الإمبريالية الأمريكية. آخر تجلياته المظاهرات التي شارك فيها حوالي مليون متظاهر في الجزائر والمغرب. محاولات الانقلاب المتكررة في موريتانيا، زائدا المظاهرات في تونس، وتأييد المقاومة في كل من فلسطين والعراق إلى الحد الذي تمثل بذهاب آلاف المقاتلين العرب إلى العراق ومواجهة العدوان الإمبريالي. وهذا معناه عربيا تخطي الحدود ومنطقها القطري. وتجاوز أيديولوجياتها الرسمية التي تشكل في مستوى من مستوياتها حدوداً سياسية – ثقافية. وهو أيضا أحد تجليات الوحدة العربية بكل حقائقها التاريخية: اللغة، الدين، الانتماء، الجغرافيا الآمال، الآلام المصالح المشتركة – المصير المشترك أكثر أخلاقيات الولاء والانتماء.

والملاحظ أنَّ الحدود السياسية – الثقافية في الوطن العربي هي مناطق تلامس بين قطر وقطر، وبين عدة أقطار. والتلامس في حقيقته السياسيـة والثقافية عربيا يتم على كل المستويات، رغم حالات الحصار التي تفرضها الأنظمة القطرية بقوة حساسياتها الأمنية، والمصالح الخاصة بالطبقة السياسية الحاكمة. وفي هذه الحدود يتم ممارسة السلطة والسيطرة، وفي الجانب الآخر يوجد عرب يحاولون تخطيها.

إنَّ الحدود داخل الأمة الواحدة تتعدد وتتنوع داخل النمط الثقافي العام. وانطلاقا من هذه المسلمة الثقافية فإنَّ الانثروبولوجيا في مدرستها العربية النقدية (12) تقول بالتعددية الثقافية، شأنها في ذلك شأن كل المدارس الأنثروبولوجية. وهي لذلك تشاركها وجهات نظرها بشان التعددية وما تفرزه من تباين واختلاف بين ثقافة: أمة /أمة، وتشاركها في مسألة التواصل القائم بين ثقافة وثقافة، حيث يحصل بينهما الأخذ والجذب، والنفي والتعارض، لأن الثقافات تمتاز بعدة صفات أهمها، في هذا البحث، الانتشار الثقافي الذي يؤدي إلى التماثل الثقافي من جهة، والفوارق الثقافية والاختلاف من جهة ثانية. وهذا مفاده من وجهة نظر الانثروبولوجيا الثقافية أنَّ في كل ثقافة جاهزية ثقافية للتكيف الثقافي من أجل أن تتعدد، وتتسق وتتلاءم، وهي تعيش حالة الاتصال أو التواصل الثقافي، الأمر الذي يؤدي إلى أن التكيف ينتج جملة من العناصر الثقافية الاجتماعية. وهذا ما يطلق عليه عمليات التخلي و الاكتساب التي تقوم بها الثقافة، على النحو الذي سنفصل فيه لاحقا. وهذا ما يحدث بين أمة / أمة، وجماعة / جماعة – وفرد / فرد (13).

ويلاحظ العلم السوسيو-انثروبولوجي أنَّ التواصل سواء كان عفويا أو مخططا ينتج بعض التغيرات في بنية الأنماط الثقافية الأصلية للأمم والجماعات الإثنية والمذهبية. رغم وجوب التفريق بين ما ينتج عفويا وما ينتج بالتخطيط المدروس. وخاصة إذا كان هذا التخطيط يتم في مخابر ومراكز الأبحاث الأمريكية – الصهيونية.

وللأنثروبولوجيا في مدارسها الفكرية الأورو- أمريكية جهودها المحمودة، رغم اختلاف النوايا وطرق التوظيف لهذه الجهود في دراسة وتحليل وتفسير ما ينتج عن التواصل بين ثقافة / ثقافة. أي ثقافة أمة/ ثقافة أمة. وخاصة التواصل الذي يتم عبر الحدود وما ينتج عنه من روابط، حيث يقود التواصل الثقافي الحدودي إلى مستويات من الاحتكاك، وما يتأتى عنها من تعديلات وخاصة عندما يكون الاحتكاك على أشده بين ثقافة متقدمة، وثقافة أقل تقدماً وتطوراً.

وإذا عدنا إلى مسألة الهوية في سياق أو إطار التواصل- الاحتكاك ووضعناه في إطار ما تسميه الانثروبولوجيا الحدود الاجتماعية فرد/فرد- طبقة / طبقة، فإنَّ صورة الهوية تزداد وضوحا، حيث لا تؤثر هذه الحدود الاجتماعية على ثوابت الهوية. وخاصة في حال الوطن العربي. وهذا معناه أنَّ تداخلا ساقه أو أوجده الجدل الاجتماعي داخل النمط الثقافي العربي، لأنّ المجتمع العربي لم يعرف بعد الانقسام الطبقي الذي عرفته المجتمعات الأوروبية. وإن كانت بذوره تنمو، وتجلياته تزداد وضوحا.

إذاً، فإن الثقافة على وجه العموم والثقافة العربية على وجه الخصوص، لأنهَّا مجال الدراسة في جانبها الحدودي، تنتج الشخصية الاجتماعية- الحضارية بكل معالمها، وداخل كل شخصية من هذه الشخصيات، كما أسلفنا، تنتج شخصيات محلية، وشخصيات قومية، وشخصيات عرقية. وفي حال الوطن العربي سياسيا تنتج ما يطلق عليه الشخصية الوطنية. وبين هذه الشخصيات جملة من القواسم المشتركة، ومستويات معينة من الاختلاف والتنوع. وداخل هذه الجُبُلَّة الثقافية يوجد عدد من الأفراد يعبر هذه الحدود الثقافية – الاجتماعية، جيئة وذهابا مدفوعين بدوافع ونزعات شخصية أو عقائدية وسياسية، ومنهم من ينتقل ويعبر من ثقافة محلية ووطنية الى ثقافة أجنبية، مثل الهجرة.غير أن مسألة الحدود، وخاصة الحدود الثقافية والعقائدية بكل إشكالاتها وتجلياتها حتى تزداد وضوحاً ويزول الالتباس عن محياها ووجهتها والوظائف التي تشكلها، السياسية منها والثقافة والاجتماعية، تلزم الدراسة الخوض والتفصيل في مسائل الثقافة تعريفاً وجدلاً وانتشاراً. و هذه الإضافات الثقافية ستلقى الضوء على مسألة الحدود داخل مجالها الجغرافي والسياسي والبشري والزمني في الوطن العربي.

المفهوم الأنثروبولوجي للثقافة: (14)

يقتضي الحديث عن معنى الثقافة، التفريق بين نظرية الثقافة، و العلم الأنثروبولوجي الثقافي. فالنظرية الثقافية وهي تتعامل مع الإنتاج الثقافي باعتباره مادة ملائمة لها (15) “تكون معنية، على وجه الدقة بالعلاقات بين الأنشطة الإنسانية الكثيرة و المتنوعة.والتي قسمت تاريخياً و نظرياً، إلى جماعات خاصة، حيث تتفحص هذه العلاقات من حيث هي حيوية و محددة داخل مواقف تاريخية شاملة يمكن وصفها”.

وتحاول النظرية بشكل غير متوقف إنتاج مفاهيمها على ضوء حركة الواقع، بحيث تحيط به وتستوعبه على نحو جديد، وهي تخلق عالما من (16) “الموضوعات النظرية، خاصا بها. كما أنها تحدد بنى اجتماعية حقيقية قادرة على تفسير ما يلاحظه عالم الدراسات الأنثروبولوجية. والعالم يستخدم أدواته التي تقدمها له النظرية من أجل أن يقدم حقائق اجتماعية عن البناء الاجتماعي الذي يدرسه.غير إن العالم الأنثروبولوجي لا يقدم الحقائق التي يتوصل أليها دفعة واحدة، و بشكل متكامل، بل يقدمها مرة تلو المرة، وفي كل مرة يطور معلوماته”.

وعلى ضوء ما تقدم يمكن تعريف الثقافة على أساس تقسيمها إلى جذرين أو مقطعين. الأول (anthropos) ويعني الإنسان والثاني   (logy)ومعناه العلم.

غير أن الاستمرار في شرح مفهوم الثقافة لابد أن يوضع في سياق تاريخ مفاهيم الثقافة، و طرائق نقلها إلى الثقافة العربية، حيث يتم نقلها نقلا شائهاً في أغلب الأحيان، لأن هذه المفاهيم لم تستخلص في الأساس من التجربة الاجتماعية العربية، استخلاصا دقيقا، وقائما على الدرس والتحليل في البناء الاجتماعي العربي. ولذلك ذاعت بعض المفاهيم الأنثروبولوجية الغربية، في استعمالات وتوصيف وقراءة العلم الأنثروبولوجي في الوطن العربي، وفي الثقافة العربية، وكان النقل منغمسا في تعليل أنَّ العام يلغي الخاص ويهمشه، علماً إن المفهوم إذا استمد من واقعه الاجتماعي، ثم حلل وفسر بناء على قوانينه العامة والخاصة، فإنه يكون الأقدر على استيعاب الحدث الاجتماعي والثقافي وتشخيصه والتعامل مع معطياته ومكوناته، وتقديم تفسير مقنع له، خاصة وأن تشكيل المفاهيم وتعريفها يعد من أسس الصياغة العلمية الدقيقة لقضايا العلم الأنثروبولوجي. ولذلك فإنَّ تعويم المفاهيم و المصطلحات الغربية من قبل بعض المشتغلين بالدراسات الأنثروبولوجية الثقافية في الوطن العربي، أفسد عليهم رؤية النسق الثقافي العربي في مستوييه الوطني والقومي، رؤية سليمة، مستوعبة لما فيه من عناصر ثقافية. ومتمكنة من رؤية الظاهرة الثقافية من خلال بناها الاجتماعية.

إذاً، نلاحظ أنه حتى في المدارس الغربية الأنثروبولوجية ومن ضمنها المدارس الأمير كية استعملت مفهوم الثقافة استعمالات متعددة ومتباينة في المضمون والأهداف إذ أن بعض المدارس الأنثروبولوجية أرادت به معرفة تاريخ الكائنات الحية. في حين قصدت به مدارس أخرى ثقافة الإنسان الذاتية الخاصة بالتربية العقلية، وهناك فريق ثالث من هذه المدارس أعتبرها ظاهرة اجتماعية تتكون من خلال استجابات الإنسان لحاجاته اليومية في المأكل والمشرب، في آداب الضيافة والحديث و بما ينتجه الإنسان من حاجات مادية.

والملاحظ أن هذه المعاني على اختلافها تعنى وجود رابطة جدلية بين الإنسان وثقافته، إلا أنها تختلف باختلاف موقع الفئات الاجتماعية في البناء الاجتماعي، كما تتنوع بتنوع الفكر والعقائد، لكن هذا التنوع يبقى نسبيا غير مطلق لأن الفئات الاجتماعية تتعايش وتتساكن وتتجاور داخل البناء الاجتماعي الواحد،  لكن كل فئة اجتماعية تحتفظ ببعض الخصوصيات والهوامش الثقافية، فالفلاح له عاداته الخاصة، وله أعرافه وقيمه التي تختلف كثيرا أو قليلا عن ثقافة ابن المدينة، وهلم جرا..

وهناك مدارس تنظر إلى الثقافة بوصفها ظاهرة اجتماعية ينتجها المجتمع في حياته وتاريخه. وبما أن الثقافة كذلك فهي تخضع للتطور والتقدم، والقيام بعمليات التخلي والاكتساب، الأمر الذي يؤدي إلى تنوع الثقافات واختلاف محدداتها الاجتماعية والحضارية، وتباين اتجاهاتها وفلسفاتها. ووحدة قيمها وتناقضها (18). وقد بحث الدكتور زكي نجيب محمود هذا الـجانب في كـتابـه (19) “تجديد الفكر العربي” عندما عالج مسألة انتقال العناصر الثقافية من عصر إلى عصر، ومسألة تغير العناصر وتطورها “وأنه ليندر جدا أن يكون الانتقال الفكري من عصر إلى عصر انتقالا في المعاني العامة المجردة كما تدل عليها ألفاظ عامة يتداولها الناس فيما بينهم من أحاديث ومعاملات، وإنما يكون الانتقال الفكري في تغير المضامين التي يقصد إليها المتحدثون والمتعاملون بتلك الألفاظ العامة والمعاني المجردة كؤوسا ومضامينها هي الشراب داخل تلك الكؤوس أو الأطباق ليست هي التي تتغير من عصر فكري إلى العصر الذي يليه وإنما الذي يتغير هو الشراب في الكؤوس أو الطعام في الأطباق، وإلا فقل لي متى كان العصر الذي يتنكر “للفضيلة” بمعناها العام أو “العدالة” أو “الحرية” فهذه الألفاظ تبقى ولا تزول، تجيء حضارة وتذهب حضارة وتجيء ثقافة وتذهب ثقافة، لكن تبقى ألفاظ الفضيلة و”العدالة” و”الحرية” و”الكرامة”.. الخ.. مرفوعة الأعلام، فما الذي يتغير إذن بحيث نقول ذهبت ثقافة وجاءت ثقافة ؟ الذي يتغير هو المضمون”. والجدير بالذكر أنَّ هذا التغيير هو نتاج عمليات التخلي والاكتساب التي نزعم أنها تمثل قانونا لها، فتلك العمليات لا تحدث بمعزل عن شروط الثقافة، الداخلية والخارجية، وإنما تتم في ظل تلك الشروط على النحو الذي سنلاحظه بعد قليل.

مفهوم الثقافة

يعني الكلام السابق، من وجهة نظرنا، أن العلاقة بين الثقافة والإنسان، هي التي تحدد وتنمط السلوك الاجتماعي، وهذا يعني أن كل عنصر ثقافي هو في حقيقته يمثل استجابة لحاجة ما. وما دامت المجتمعات غير متماثلة أو متشابهة في حاجاتها، فإن الاستجابة تختلف من مجتمع إلى آخر. وتعتبر المدارس الأنثروبولوجية أن هذا الاختلاف هو المحدد الأساس في اختلاف الشخصيات القومية. ومن هنا وجد المبرر لتلك المدارس لدراسة وتحليل طرائق كل مجتمع وأسلوبه في استجابته للأحداث والوقائع في بنائه الاجتماعي، باعتبار أن كل عنصر ثقافي يتحول إلى سلوك اجتماعي، وأن مستويات التحول داخل كل ثقافة تصبح مقياسا لتحديد جوانب الاختلاف والتباين ما بين العربي والأوربي والصيني والأمريكي والروسي والفيتنامي والهندي.. الخ. وثمة أمثلة كثيرة لا تحصى تؤكد هذه القاعدة في القياس منها، على سبيل المثال، الزواج بوصفه عنصرا ثقافيا وظاهرة اجتماعية. فهو يختلف في محدداته الشفهية والمكتوبة من مجتمع إلى آخر. ويختلف أيضا داخل المجتمع الواحد، كما يختلف من فترة تاريخية إلى أخرى باختلاف مستوى التطور ومضمونه، إلا أنه يتشابه في المفاهيم في أكثر من مجتمع مثل: الخطبة، العقد، الزفاف، دعوة الضيوف، الهدايا.. الخ

اثر هذه اللمحة الموجزة عن طبيعة الظاهرة الثقافية، وجوانب الاختلاف والتشابه في الشكل والمضمون يمكن أن نقدم تعريفات عدة، منها تعريف العلامة الأمريكي (20) رالف لنتون بقوله إنّها “شكل متكامل من السلوك المكتسب ينقلها أفراد مجتمع معين”. كما يعرفها الشاعر البريطاني الأصل (ت. س. ايليوت) بقوله أنها “طريقة الشعوب في الحياة”. وهناك تعريف العالم الأنثروبولوجي أ.ي. تيلور في كتابه “الثقافة البدائية” يقول فيه إن الثقافة “هي ذلك الكل الذي يشتمل على المعرفة والعقائد والفن والقانون، وغيرها من القدرات والعادات التي يكتسبها الإنسان باعتباره عضوا في الجماعة أو المجتمع”. أما الدكتور زكي نجيب محمود في كتابه “تجديد الفكر العربي” فقد قدم لها التعريف التالي “فلنفهم الثقافة على أنها طريقة العيش في شتى نواحيه، أو على أنها مجموعة القيم التي توجه الإنسان وتسيره وتقدم له المعايير التي يوازن بين الأشياء والمواقف ليختار”. أما الدكتور (21) أنور عبد الملك فقد قال بشأن تعريفها ما يلي: “قل لي ما هي ثقافة الإنسان أقول لك على الفور ما هي شخصيته”. وعندي أن الثقافة ظاهرة اجتماعية نفسية تحتل مكانها في عقول الأفراد، وتظهر على شكل سلوك في تصرفاتهم اليومية، وفي طريقة عيشهم أو نمطه.

ولما كنا نركز على الطابع الاجتماعي للظاهرة الثقافية، فإنَّنا نقدم لها التعريف التالي: “أن الثقافة ميراث مركب من عناصر اجتماعية وسلوكية ومادية يقوم الأفراد بنقلها من مرحلة تاريخية إلى أخرى، وذلك بفضل تداخلها في سلوكهم، وقدرة عناصرها على الانتقال من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل. ونلاحظ من هذا التعريف أن الثقافة تتكون من جانبين:

1 – الجانب المادي الذي يتمثل في الصناعة ووسائل الإنتاج والاختراع وكل وسائل العيش والحياة.

2 – الجانب السلوكي وفيه الجوانب الظاهرة مثل العادات والتقاليد، والجوانب المستترة أو “اللاواعية” مثل الردود والاتجاهات النفسية التي تتجسد في أحيان على شكل سلوك تجاه العادة والتقليد والقيم و الأعراف. كما يتبين في الآتي:

إنَّ المقصود بـ”الميراث المركب” هو أن الثقافة تتكون من عدد كبير من السمات والعناصر الثقافية البسيطة والمركبة، وهي نتاج مباشر لنشاط الناس الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والروحي والفكري، وأن هذه العناصر تختزن في داخلها العديد من الفعاليات، بعد أن تتحدد وظائفها داخل البناء الاجتماعي.

أما المقصود “بالعناصر الاجتماعية والسلوكية والروحية والسياسية والمادية فهي سلوك الأفراد وتصرفاتهم خلال ردهم على حاجاتهم “لأن الثقافة، كما قلنا، في حقيقتها استجابة المجتمع لحاجاته حسب إمكانياته المادية والروحية والفكرية، وهي طرائق الناس في تعديل هذه الاستجابات بين آونة وأخرى، حسب ظروف المجتمع المادية، ومستوى تطوره الحضاري ،ودرجة أمنه الاقتصادي والفكري  والثقافي وكذلك نوعية علاقاته بالمجتمعات الأخرى.

ونريد بعبارة: “ويقوم الأفراد بنقلها من مرحلة تاريخية إلى أخرى بفضل تداخلها في سلوكهم” أن الثقافة طوال تاريخها ما هي إلا إنجاز جماعي وعمل مشترك بين جميع أفراد المجتمع وفئاته الاجتماعية، وأن لكل طبقة اجتماعية إسهامها الخاص في الإنتاج الاجتماعي للثقافة، اللهم، ما عدا بعض المبادئ والقيم والأفكار والأنشطة الروحية التي تهم على وجه الخصوص هذه الطبقة، ولا تعنى شقيقاتها، فعيد العمال – على سبيل المثال- يهم الطبقة العاملة أكثر من غيرها لأنه عيدها وهي معنية بإنتاج أو ابتكار مجموعة من العناصر الثقافية، بيان العمال، الاحتفال النقابي، أرباح الإنتاج. كذلك الأمر بالنسبة لعيد المعلم الذي يخص فئة المعلمين والمدرسين وعيد الجيش بالنسبة للضباط وصف الضباط والجنود.

والخلاصة، فالثقافة ما هي إلا مجموعة كبيرة من العناصر المادية والاجتماعية المشتركة بين الفرد وأسرته وجماعته ومجتمعه، وأن الأجيال تقوم بنقل الثقافة بواسطة التعليم والتجربة والاكتساب وعن طريق التراث الشفاهي والمكتوب. إلا أن ما يجب معرفته بدقة أن الثقافة لا تنتقل على وتيرة واحدة بواسطة سلوك الأجيال الجديدة. وأكبر مثال على ذلك، موضة اللباس، وبعض آداب الضيافة والأكل والشرب والسهر والغدو والرواح، لأن الثقافة كما يقول رالف لنتون (23): “ذات سياق متواصل وأن المشاركة التي تبرر إدخال عنصر ما في شكل ثقافي متكامل تقرر بالنسبة إلى السياق الاجتماعي الثقافي المتواصل وليس بالنسبة إلى ما تكون عليه تلك الثقافة في وقت معين”.

– أما العبارة الخاتمة في تعريف الثقافة ونصها: ( وقدرة عناصرها على الانتقال من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل، فهذا يعني أن هذا الانتقال يشكل قانونها الأساس، ولولاه لما كان ثمة وحدة أو تشابه أو تماثل في الشخصية الاجتماعية للمجتمع سواء في الماضي والحاضر. وكان هناك أشكال من الانقطاع بين هذه الشخصيات تفقد فيها بعض علاقات القربى، وعناصر من التراث المشترك.الخ..

وبما أن الثقافة موجودة في سلوك الناس الاجتماعي، فهي تعنى أنها منقولة من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل بواسطة الأجيال. من الآباء إلى الأبناء، ومن الأخوة الكبار إلى الصغار، وذلك عبر التعلم والتجربة والاكتساب، فالأب الذي تعلم أن يغسل وجهه وفمه قبل تناول وجبة الطعام لا بد أن يعلم طفله هذه العادة المحببة.(22)

وإذا كان وجود الثقافة في سلوك الناس على هذا المستوى فإنَّه يعني أحد أشكال التعبير عن جدلية العلاقة بين الشخصية والثقافة، تلك العلاقة التي لا تتوقف ولا تختلف، وإنما يختلف في داخلها دور العنصر الثقافي ووظائفه وموقعه البنائي. وهذا الاختلاف يقود إلى تباين سلوك الشخصية وتمايزه. وعلى سبيل المثال فالفرد الذي تعود على استعمال منقل الفحم في شواء اللحم لا يجد المتعة نفسها عند شوي اللحمة على الغاز، ولكن الأبناء قد لا يشاركون الآباء هذه المتعة النفسية التي يجدونها في الشواء الذي يتم على الغاز، وهذه المعاني تعني أن الثقافة تمثل حياة الأفراد ومرآتهم وأن الأفراد هم في التحليل الأخير ينتجون الثقافة ويشكلون عمادها.

خصائص الثقافة:

يتميز كل مجتمع بثقافته الخاصة، وقلما نجد ثقافة اجتماعية متشابهة مع أخرى إلى درجة التطابق، فالثقافة الإنكليزية مختلفة عن الثقافة الصينية، والثقافة الفرنسية متميزة عن الثقافة الهندية، وهكذا دواليك بالنسبة لسائر الثقافات الاجتماعية الأخرى، إلا أن الاختلاف في ملامح الثقافة ومعالمها لا يكون محصورا بين الأمم أو القوميات، و إنَّما هناك مستويات من الاختلاف داخل الثقافة الواحدة، أي بين مناطقها ودوائرها. مثل الاختلاف بين الثقافة البدوية والريفية والحضرية، وبين الطوائف والأقليات القومية في الوطن العربي.

وبناء على ذلك، قام علماء الاجتماع الثقافي بتوصيف الثقافات وتصنيفها على أساس الشخصية الاجتماعية لكل أمة. ومن هنا قالوا بالثقافة العربية، والثقافة الفرنسية.. الخ.

وبناء على المقاربة بين خصوصيات الثقافة تم تحديد خصائص الثقافة انطلاقا من اعتبارها ظاهرة اجتماعية نفسية وإنسانية (23). وحيث أن للثقافة خصائص اجتماعية واقتصادية ونفسية، فإن لكل خصيصة فعاليات كثيرة، وإن لهذه الفعاليات أكثر من جانب سلوكي.

الانتشار الثقافي

إذا كانت الثقافة تحتل جانبا مهما في قيام البناء الاجتماعي بمهامه ورسالته، فإنها من أكثر الجوانب أهمية في استمرار المجتمعات وتطورها من طور إلى آخر. وهذه العلاقة الجدلية بين المجتمع وثقافته هي التي تشكل شرط تطور الثقافة وتغير وظائفها وتبدلها. وهي المسؤولة أيضا عن انتقال الثقافة من جيل إلى آخر، فالثقافة تتطور بالانتشار داخل البنى الاجتماعية، ومن بنية اجتماعية داخلية إلى بنية اجتماعية في مجتمع آخر. وتأتي خاصية انتشار الثقافة من خلال طبيعة الإنسان الاجتماعية. وعن طريق حركة الثقافة يحصل الاحتكاك والتعلم والاكتساب فالفتاة التي تشاهد فستان معلمتها وتعجب به تعمل على تقليده أو شراء ما يماثله. والأديب الناشئ يحاكي الأديب الذي يتميز بأسلوب معين في الكتابة، ويحاول أن يقلده… الخ…

مما تقدم يتبين أن العناصر الثقافية في حالة انتقال وانتشار، واستقرار واستيطان وتبادل. وانتشار الثقافة إما أن يتم بشكل عفوي أو إرادي داخلي وخارجي، وثمة جهات تخطط لنشر ثقافتها في المجتمعات الأخرى، وهو ما يسمى عادة بالغزو الثقافي.

وحري بالقول إنَّ حركة الثقافة تختلف من عصر إلى عصر، ومن مجتمع إلى آخر. فإذا كانت الثقافة في المجتمعات الأقل تطورا تمتاز بحركتها البطيئة، وفق آليات محددة، بسيطة، وغير معقدة، فإنَّ حركتها في المجتمعات الصناعية أكثر سرعة وحيوية. ولها آليات متنوعة بالغة التعقيد.

وعندي أن الثقافة في المجتمعات المتقدمة تخضع للتخطيط والضبط والتوجيه الذي يكفل لها القيام بمهامها التي يرمي إليها أصحاب القرار السياسي. وهذا يعني إجرائيا أن هناك ثقافات “مُلَقِّية” وثقافات “مُتَلَقِّية” والثقافة الأولى، على وجه العموم، موجودة في المجتمعات الصناعية، أما الثانية فأنها من شأن المجتمعات الأقل نموا، ومنها الأمة العربية.

وقد ترتب على هذا التمايز أن المجتمعات الصناعية تملك الكثير من بنوك المعلومات ومن مخابر الثقافة. وهذه وتلك مربوطة بأجهزة المعلومات والقنوات الفضائية. وقد وضعت هذه الآليات في خدمة الثقافة لنشرها هنا وهناك. واختراق العمليات الثقافية في المجتمعات الأخرى ومنها النامية، بحيث يؤدي الاختراق إلى تكييف الشخصيات القومية مع توجهات الثقافة الملقية أو الغازية، وخططها وسياستها.

وليس من المبالغة القول إنَّ العديد من الشخصيات القومية أصبحت تتصرف في جوانب من سلوكها اليومي على الطريقة الأوروبي – الأمريكية، تطرب على طريقتهم، وتلبس حسب أزيائهم، وتركب وسائل المواصلات حسب إنتاج ثقافتهم..الخ. وكم من قيمة أو وازع أو عادة وتقليد انتشرت من الثقافة الأوروبي – أمريكية إلى داخل الثقافة العربية، سواء كان الانتشار عفويا أو مقصودا، فأصبح من النادر أن تجد مجتمعا من المجتمعات بعيدا عن تأثير الثقافة الغربية. ألا يحق لنا القول إننا أصبحنا في عصر الاختراق الثقافي الغربي نمثل فأربواز الذي تتغير اتجاهاته وغرائزه عن طريق الصدمة الثقافية التي يتلقاها. وإن علم اجتماع المنازعات الموجود في جامعات أمريكية هو الذي يقرر هذه الصدمات، ويحدد زمانها ومكانها وعناصرها على النحو الذي جرى للعراق؟ وإذا كان مطلع هذا القرن قد تميز بصعود حركات التحرر الوطني والقومي وأن عقده الأخير أخذ يشهد صعود دور مراكز الأبحاث والدراسات التي تقود وتوجه انتشار الثقافات الأوروبي-أمريكية، الهادفة أصلا إلى تطويع شخصيات الشعوب في “العالم الثالث” لصالحها. وبهذا الصدد كتب الشاعر البريطاني الأصل (24) (ت. س. اليوت) “.. وكثيرا ما تتخذ القوة وسيلة لفرض ثقافة أجنبية غلى ثقافة أدنى. وهذه مشكلة لا يمكن حلها، وهي تتخذ أشكالا كثيرة. وثمة مشكلة تتصل بثقافة أدنى للمرة الأولى، وثمة مشكلة ثانية عندما تكون الثقافة الوطنية قد بدأت تتحلل فعلا تحت تأثير الثقافة الأجنبية، وحيث يكون أبناء الوطن قد تشربوا من الثقافة الأجنبية فعلا أكثر مما يمكنهم طرده في وقت من الأوقات (……..) لينضجوا في الخليط الثقافي الذي أوجدناه”.

وبطبيعة الحال فإن الخليط إياه تتعدد مواده، وتتنوع عناصره إلى حد يمكن السياسات الثقافية الغربية من احتواء شعوب العالم، والهيمنة على تفكيرها. وعلى أرض هذه السياسات تجهض مشاريع النهضة، ومنها المشروع الحضاري العربي. ثم أليست السلبية السياسية الموجودة الآن في الشارع العربي. يعود جزء منها أو وجه من وجوهها إلى إيحاءات الثقافة الأمريكية واتجاهاتها النفسية.

الجدل الثقافي:

قبل الحديث عن الجدل الثقافي لابد من الإشارة إلى إن الثقافة العربية لم تحظ باهتمام أهل العلم والسياسة، لاسيما أن جهات الاختصاص لم تضعها حتى هذه اللحظة، الموضع الذي تستحقه في سياق معركة الحضارة. كما أن تلك الجهات لم تنظر إليها بعين منهجية من حيث تأثيرها في الشخصية، ولم تول أي اهتمام إلى الأمن الثقافي باعتباره أحد أهم عوامل الأمن القومي، وقد تمت خطوات عدة في هذا المنحنى مثل تصدى بعض العاملين في الحقل الثقافي لشرح الثقافة وخصائصها وآلياتها داخل البناء الاجتماعي. وتقسيم النمط الثقافي حسب الجهات والمناطق التي يتواجد فيها، إضافة إلى استحداث الأسماء والمصطلحات التي تغطي العناصر المادية والاجتماعية والفكرية التي تتكون منها الثقافة مراعية طابع الوحدة والتنوع في الثقافة. وكذلك استحداث المفاهيم التي تخص جبلة الثقافة مثل: “العنصر الثقافي” أو “السمة الثقافية”. ويطلق على آلية الثقافة في اكتساب عنصر جديد، وتخليها عن عنصر قديم بـ”حركة الثقافة”. كما اعتبرت قدرة الثقافة على التخلي والاكتساب بناء على عناصرها بـ “الحيوية الثقافية”.

واعتبر العلم الأنثروبولوجي أن تجديد الثقافة يرتبط ارتباطا وثيقا بمفهوم “عمليات التخلي والاكتساب”. كما أن تقويم الثقافة من حيث اعتبارها ثقافة غازية أو مغزوة. حيوية أو تقليدية يتم على أساس قدرة تلك العمليات في المحافظة على الهوية القومية وتطوير معالمها حسب حاجات العصر وتحدياته.

ومضى العلم الأنثروبولوجي نحو مهام أخرى مثل تقسيمه الثقافة إلى حزمة كبيرة من الأنشطة الفكرية والمادية. وحصر هذه الأنشطة بأنماط محلية وقومية وعالمية. وارتأى أن كل ثقافة تقسم إلى مجموعة من “المناطق الثقافية” مثل “الثقافة القروية” و”الثقافة الحضرية”..الخ. ثم أطلق على المستويات التي تتوزع فيها الثقافة بالأنساق الثقافية مثل “نسق القيم “والمأكل والمشرب، ونسق العادات والتقاليد”. واكتشف العلم الأنثروبولوجي أن كل نسق له نظامه ووظائفه التي يمارسها داخل النمط الثقافي العام. وأن بين هذه الوظائف الكثير من الاعتمادات المتبادلة. فالتحية، على سبيل المثال، بوصفها عنصرا ثقافيا مركبا تتساند مع عناصر ثقافية أخرى حتى تتمكن من القيام بدورها الوظيفي. وثمة محددات ثقافية اجتماعية تبين قيمتها في سلم القيم مثل المبادرة في التحية من قبل الصغير للكبير، والماشي للجالس، والملاحظ أن الاعتمادات المتبادلة والتساند بين العناصر الثقافية تشكل ما يسمى “بالنسيج الثقافي” وكل نسيج له وحدته وتناقضاته، وله أيضا تنوعاته. ففي داخل القيم العشائرية تنمو القيم القانونية. وإلى جانب الأفكار السليمة توجد الأفكار الخاطئة، وإلى جانب الحق يوجد الباطل. وتتحد هذه القيم أو تتصارع حتى تصل الثقافة إلى درجة تقدر فيها أن تتخلى عن قيمة قديمة لصالح قيمة جديدة. ومن المهم القول أن هذه القدرة قد تكون ضعيفة في بعض الأحيان، وقوية في أحيان أخرى. فإذا كانت ضعيفة فإن القيم التي تخلت عنها الثقافة لا يعني أبدا أنها قد فقدت وظائفها داخل النمط الثقافي. وهذا معناه أن التخلي في حقيقته لم ينجز بشكل نهائي. لهذا، قد تعود هذه القيم إلى ممارسة دورها من جديد، عندما تتوفر لها الظروف الاجتماعية المناسبة.

وبما أن الفرد لا يعيش، بمعزل عن ثقافته، وأن له علاقة جدلية معها يؤثر فيها ويتأثر بها، كما سنرى بعد قليل، فإن تلك التناقضات داخل العناصر الثقافية تجد صداها وتأثيرها داخل عقليات الأفراد والجماعات، وتعكس نفسها في سلوكهم اليومي فالابن الذي اعتاد على الإهانة في بيته يجد صعوبة بالغة في احترام أخوته أو أقاربه إذا شعر بتفوقه عليهم ماديا ومعنويا وجسديا، والرجل الذي آمن أن شرف الفتاة في عفافها يصعب عليه أن يقبل لابنته ممارسة الجنس مع زميلها في  المدرسة دون عقد زواج شرعي، والحزب الذي يربى أفراده على قيم المناصرة واتجاهات التعصب يجد صعوبة بالغة في قبول  التعددية السياسية وانتقال السلطة سلميًا.

وقد تلجأ بعض الثقافات إلى حل الصراع بين عناصرها الثقافية عن طريق التعادل الوظيفي بين جملة من العناصر الثقافية القديمة والجديدة، وهذا النمط من التعادل يجد نفسه داخل شخصيات الأفراد بناء على العلاقة الجدلية بين الثقافة والشخصية. فإذا كانت العناصر الثقافية من طبيعة واحدة فكريا وعقائديا وقيمة، فإنَّ هذا التعادل يظهر على شكل سلوك عادي وسليم، إما إذا كانت العناصر المتعادلة من طبيعة ثقافية غير واحدة، متناقضة في القيم والاتجاهات والمعايير فإنَّ مردودها في سلوك الإنسان يظهر على شكل ازدواج ثقافي. والذي يمكن تسميته عادة بالنفاق الاجتماعي، والانتهازية، والشطارة أو تشكيل سلوك تلفيقي مثل الادعاء بالإلحاد والإيمان معا. والإنتماء القطري والقومي. والانحياز للعدل والظلم الاجتماعي، والقانون والمحسوبية.. الخ. ومن المناسب القول أن الأنماط السابقة من المعايشة بين العناصر الثقافية لا تُنعت به ثقافة معينة، وإنما في حقيقتها تمثل حالة ثقافية موجودة في كل الثقافات. كل ثقافة حسب ظروفها وتجربتها. ولكن نسبتها مختلفة من ثقافة إلى ثقافة أخرى. فالثقافات في المجتمعات المتقدمة لا توفر الظروف لذلك النمط من التعايش السلبي. ويقل فيها كثيرا الازدواج الثقافي. والملاحظ أن قوانين الثقافة واحدة في كل المجتمعات، غير أن لكل قانون آلياته المرهونة عادة بظروف المجتمع الحضارية وطابع سياسة الثقافة وكنهها فيه. ونزعم أن للثقافة ثلاثة قوانين:

– قانون انتقال الثقافة من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل.

– قانون الانتشار الثقافي، إما من منطقة إلى أخرى “داخلي”، أو من أمة إلى أخرى “خارجي”.

– قانون التخلي والاكتساب.

والجدير بالذكر انه قد تم شرح آليات القانون الأول والثاني بشكل موجز، وسنعمل على شرح القانون الثالث.

تميزت الثقافات قديما وحديثا بعمليات التخلي والاكتساب. وكانت هذه العمليات محكومة دائماً وأبداً بالظروف الحضارية لكل أمة. فكلما أحرزت الأمة تقدمها واستقلالها الحضاري تمكنت من القيام بعمليات التخلي و الاكتساب وفق نواميسها الداخلية وحسب حاجاتها وقدراتها. ويقترن عمق تلك العمليات بمستوى التحولات الاجتماعية التي تتم داخل البناء الاجتماعي. فكلما كانت التحولات متوازنة داخل البناء الاجتماعي، تتم وفق حاجات المجتمع، وتتوافق مع إمكاناته، كانت عمليات التخلي والاكتساب متلائمة مع معطياتها الاجتماعية، متوازنة مع الأبعاد الاجتماعية والحضارية التي تذهب إليها التحولات الاجتماعية. فإذا وصل المجتمع، على سبيل المال، إلى مستوى من التطور يملى إلغاء بعض أشكال الملكية و إضافة أشكال جديدة، فإن الثقافة ستعمل على ابتكار عناصر ثقافية جديدة تواكب الملكية الجديدة وتلائمها. وهذه الإضافات الثقافية لا تقتصر على عنصر الملكية فقط، بل تمتد إلى عناصر ثقافية كثيرة، فيها المادي والمعنوي، ومنها الأخلاقي بشكل يتجانس فيه الإلغاء والاكتساب مع تطور الأفكار ودرجة الوعي الاجتماعي الذي وصل إليه المجتمع، ومع منظومة الأفكار التي تشكل فلسفة للثقافة (25).

وما يجب التأكيد عليه أن عملية الاتصال الثقافي لها تأثيرها المباشر على عمليات التخلي والاكتساب، فعندما يتم الاتصال بين ثقافة تعتمد على طبع الكتب على آلات إلكترونية كوسائل طباعة أكثر تطورا من الآلات السابقة، وتقوم بإنتاج أعداد من النسخ لا توازيها فيها الوسائل القديمة في المطابع التي تملكها أو تستخدمها ثقافة أخرى، فإنَّ الثقافة التي لا تملك الآلة الجديدة تلجأ تدريجيا إلى التخلي عن الآلات القديمة، واكتساب الآلة الجديدة. ولا شك أن هذا المثال يمكن جعله نموذجا لعمليات ثقافية متباينة في مضمونها وكما يمكن تعميمه على العناصر الثقافية مثل أزياء، وطرائق كتابة القصة، ومدارس النقد ووجبات الطعام، ووسائل الركوب. والنوم والترفيه، وطرائق حسابية وجبرية وفيزيائية، وقياسات منطقية.

على هذا الأساس فالثقافات تقوم بعمليات التخلي والاكتساب دون توقف. وأن هذه العمليات تشكل بالنسبة لثقافات العالم قانونها الذي يحكم الثقافة ويقودها.

والخلاصة، فإنَّ عمليات التخلي والاكتساب تتأثر بقانون الانتشار الثقافي الذي يتم بناء على أسلوبين أو آليتين:

– الأسلوب العفوي الاختياري الذي يؤدي إلى انتقال العناصر الثقافية عن طريق الاحتكاك والاتصال والحوار الثقافي.

– الأسلوب الإجباري أو القسري الذي يؤدي إلى انتقال العناصر الثقافية إما بسبب الحاجة أو بالضغط والإكراه القسري.

عودة إلى مسألة الحدود السياسية – الثقافية في الوطن العربي

بناء على استجلاء مفهوم الثقافة واستنادا إلى الواقع العربي المعاش نستخلص ثلاث وجهات نظر في الحدود الثقافية والسياسية والعقائدية الموجودة أو القائمة بين الأقطار العربية.

– وجهة النظر الأولى وهي التي ترى أن الحدود الثقافية والسياسية في الوطن العربي مصطنعة قائمة بفعل الأنظمة والتدخل الخارجي، والتخلف التاريخي ووجهة النظر هذه تنطلق من حقائق الأمة العربية، وحقائق وحدتها المادية والروحية والاجتماعية والثقافية.

– وجهة النظر الثانية، وهي وجهة نظر بعض الأحزاب والجماعات الاجتماعية والإثنية والانعزالية التي تقول بأن هذه الحدود قائمة تاريخياً. وأن وراءها تعيش أمماً عربية وغير عربية: فرعونية – فينيقية بربرية. وتفريقات أخرى: لبنانية وتونسية و..الخ.. ولذلك فان الوطن العربي ينقسم إلى أوطان. وفي كل وطن أمة / أمة وثقافة / ثقافة.

– أما وجهة النظر الثالثة، فهي التي تقول في مواد دستورها بأن بلدانها تنتمي إلى الأمة العربية الواحدة، وفي ممارساتها تعزز الولاءات القطرية التي تجعل من كل قطر: دولة / دولة – ثقافة / ثقافة. تمهيداً إلى تحويله إلى: أمة / أمة.

ويستمر التفسير الانثروبولوجي من منظور انثروبولوجي ينطلق من حقائق الحياة العربية، وهي أن الوطن العربي يشكل: أمة / ثقافة وأن التجزئة صائرة إلى الزوال بحكم عوامل الوحدة ومقوماتها التي أتينا على ذكرها. ومن أبرزها الحقيقة الوحدوية للثقافة العربية وإنسانيتها العربية التي وصفها جوستاف لوبون. بأن “التاريخ لم يعرف فاتحاً أرحم من العرب”. غير أن المدرسة الانثروبولوجية العربية النقدية التي تعتمد هذا التفسير بناء على أسانيده التاريخية، لا تتنكر أبداً للتنوع والاختلاف داخل الثقافة العربية الأمر الذي يجعلنا نقر ونعترف منهجياً بأنَّ الوطن العربي في أعقاب “اتفاقية سايكس – بيكو” عام 1914 تم تقسيمه سياسياً بحدود سياسية. وكان هذا التقسيم مبنياً على رؤية غربية استراتيجية ترى بالحدود مواقع حتى يكون مانعاً للوحدة العربية، وأداة لضرب أي تقدم أو تطور باتجاه امتلاك التقنية بكل ثوراتها العلمية، خوفاً من الدور الحضاري الذي تشغله الأمة العربية في النظام العالمي، إذا ظفرت بوحدتها. وهذه الاتفاقية هيأت الأجواء لوعد بلفور الذي قضى بإنشاء “كيان صهيوني” في فلسطين العربية حُدِّدَت مهمته بتكريس التجزئة، وتنشيط النزعات الانعزالية والانفصالية.

إنَّ الوطن العربي في حالته الراهنة توجد فيه: دولة / دولة. قطر/ قطر، وثمة سعي غير متوقف داخلياً وخارجياً حتى يكون لكل دولة عربية: ثقافة / ثقافة تتداخل وتتقاطع. ومع ذلك فإنَّ الثقافات المحلية والوطنية تتفاعل جدلياً داخل وحدة الثقافة العربي. وهذا يتم بفعل وحدة الشخصية الاجتماعية العربية، وقوة الانتماء والولاء في هذه الشخصية، كما تفيد الأحداث والوقائع الاجتماعية، السياسية والثقافية التي تجري في الوطن العربي وخاصة حول محور: العراق وفلسطين.

ويلاحظ التفسير الأنثروبولوجي على ضوء ما تقدم إن الثقافات الوطنية رغم كل السياسات القطرية، تتوافق مع الثقافة القومية. وفي هذه الحالة تنعدم أو تخف وطأة الحدود الثقافية. وإن كان حال الوطن العربي سياسياً: دولة / دولة، كما أنَّ الدولة القومية غير موجودة على الأرض. ولكنها موجودة في عقول الناس، وداخل وعيهم الاجتماعي القومي. وعلى هذا الأساس تجري بين الثقافات الوطنية جملة من التبادلات الثقافية التي تتم في إطار الجدل الثقافي الذي أوضحناه بحيث يجري التبادل بين: ثقافة – دولة / ثقافة – دولة. لكن هذه الثقافة تخضع في تبادلها للقانون القومي الذي يقول: إنَّ الوطنية في كل حالاتها قومية، وإنَّ القومية في كل تجلياتها وطنية. ومعنى هذا أنَّ الهوية المحلية جزء من الهوية الوطنية. وهذه وتلك جزء من الهوية القومية. فالمستويات السابقة تتجلى داخل بعضها بعضاً بحكم الحقيقة الوحدوية التاريخية للأمة العربية.

ومع ذلك فإنَّ هذه الحقائق لا تمنع على الإطلاق من وجود شرائح من المجتمع العربي تنظر إلى الحدود الثقافية الموجودة بين الثقافة المحلية والثقافة الوطنية والثقافة القومية، نظرة تقسيمية حدودية بكل أبعادها ومضامينها، وتوجد لها مساحة أو موضوع في عقول أفرادها. وتراهن عليها في ممارساتها. وتبالغ بوجهة نظرها مدفوعة بمنطق الرغبة إلى درجة تضع بعض العناصر الثقافية الحدودية في مكانة كبيرة، وتبالغ فيها.

لكن هذه النزعات والاتجاهات لم تنجح حتى هذه اللحظة في تحويل هذه الحدود إلى كيانات ثقافية منفصلة، تؤثر على الهوية القومية – بعض الأحزاب اللبنانية. حركات بربرية. حزب الأمة الجديد في مصر. جنوب السودان – شمال العراق. الخ… – على النحو الذي تفعله الحدود الثقافية في المعادلة الحدودية: ثقافة / ثقافة في ثقافات أخرى، مثل الحدود الأمريكية – المكسيكية ؟ كما أن هذه الحدود الثقافية المتخيلة لم تؤخذ كأمور مسلم بها، لأنها غير ممكنة أو ناضجة وهي لم تملك حقائق خاصة بها على الإطلاق رغم كل الجهود والتعبئة الخارجية والأموال التي تصرف من أجل تعزيز هذه الحدود وخلق حقائق لها وراء الحدود السياسية.

إنَّ التنوع والاختلاف الثقافي الموجود داخل الثقافة العربية بكل مستوياتها الحالية، يشكل حالة إغناء للثقافة العربية، ويدعم بقوة هذا الغني في الهوية القومية. والانتماء إلى هذه الأمة العربية. ولا يؤدي إلى وجود حدود ثقافية مغلقة أو متكاملة الخطوط.

ومن الجدير بالذكر القول إنَّ الفوارق الاجتماعية التي تحولت إلى حدود بين الطبقات الاجتماعية داخل المجتمع الأوروبي لم تتوفر لها في هذه اللحظة العوامل الاجتماعية – الثقافية التي تحولها إلى حدود اجتماعية في الوطن العربي، ولم توفر لها أيضا الطابع الانقسامي الذي عرفته الطبقات الاجتماعية الأوربية، لأن المجتمع العربي لا يزال يحافظ على خصائص المجتمع الأهلي الذي تسود فيه علاقات قربى الدم. كما أن الفوارق فيها قائمة على أساس مستويات القربى. وهذه الأخيرة هي التي تحدد طابع الوحدة والانقسام. وهذا ما تؤكده الشواهد – المشاهد، حيث فيها دلائل ومفاهيم ومعاني محسوبة على المجتمع الأهلي الذي لا تصل فيه الانقسامات إلى حروب طبقية. ولا تترسخ الحدود إلى مستوى: دولة / دولة. أي: حدود / حدود.

ونلاحظ في الحالة العراقية أن الشريحة السياسية الحاكمة فيه بفعل اختيارات الاحتلال الإمبريالي الأمريكي تقول: عن العرب الذين يجاهدون في العراق بأنهم أجانب، يأتون من وراء الحدود. ويأتي الواقع العربي ليقول إنَّ هؤلاء ليسوا أجانب على الإطلاق. هم من الأقطار العربية يأتون إلى بلدهم العراق المحتل من أجل تحريره. وفي عرفهم ويقينهم أن تحرير العراق واجب قومي وديني ووطني بكل أبعاده وتجلياته، ولذلك فإنَّ منطق الحدود الذي يقول به الاحتلال الإمبريالي وأعوانه من العراقيين لا شرعية له، لأنَّ الحدود السياسية مصطنعة وغير مطلقة لأنها غير طبيعية.

والخلاصة، فإنَّ الحدود السياسية الموجودة بين الأقطار العربية لا تملك الشروط الاجتماعية والثقافية والتاريخية التي تمكنها من إقامة حدود ثقافية على جزء من أصل هو الأمة العربية. وكل ما قيل في الشواهد – المشاهد من كلمات ومفاهيم ورموز لا يُمَكنِّ دعاة القطرية في زمن الاحتلال والتبعية  أن يزيلوا من ذهن الإنسان العربي ومن نفسيته النظر الى الحدود السياسية المثيرة للجدل والمشكوك في صحتها وسلامتها أصلاً، أنها حدود مصطنعة بالمطلق، كما أنها لا تخلق حدوداً ثقافية قائمة على أساس: ثقافة / ثقافة بالمطلق أيضاً، لأنَّ ذلك يوجد في ذهن المحتل ومن في معيته. إذاً، هي ظاهرة ذهنية قابلة للزوال بزوال أسبابها الداخلية والخارجية تماماً، مثل زوال حائط برلين لأنه مثل حالة سياسية: شرقية / غربية مؤقتة وزائلة بزوال أسبابها. أما الذهاب إلى العراق.. أي ذهاب الجيل العربي الذي حافظ على إيجابياته العربية الإسلامية، للقتال في العراق ضد الاحتلال الإمبريالي يمثل حالة مناهضة للحدود السياسية. وهذه الحالة القتالية واحدة من تجليات الوحدة العربية، انطلاقاً من القانون القومي السابق، الذي يقول: إن الحالة الوطنية حالة قومية، والحالة القومية حالة وطنية بكل تجلياتها. وهذا معناه أن وجود المقاتلين العرب في بلدهم العراق يؤكد صدق وسلامة هذا القانون ومنطقيته. كما أنه يشكل نفياً للحدود السياسية التي يقول بها أعوان الاحتلال الإمبريالي.

وختاماً، فإذا سلمنا بوجود حدود ثقافية محلية فإنَّها لا تعدو أن تكون أكثر من مناطق ثقافية داخل القطر الواحد، وتملك مستويات من الخصوصية المحلية شأنها شأن كل ثقافات العالم. وهذه الخصوصية ليست منفلتة من شروطها الوطنية القومية، وإنما، كما أسلفنا، تشكل لحظة من لحظات الخصوصية الوطنية بفعل المشترك بينهما. وفي الثقافات العربية وخصوصياتها المحلية والوطنية القومية تتكون الهوية العربية.

وأخيراً وليس آخراً نؤكد من خلال التفسير الأنثروبولوجي للحدود السياسية والثقافية في الوطن العربي بأنها مالكة للإثارة الجدلية، بحكم فقدانها لحقائقها. كما أن الشعب العربي لم يسلِّم بها على الإطلاق. وهذا معناه أن مفاهيم: “الحدود” و”الأجانب” و”الإرهاب” ما هي إلا عناصر ثقافية مفروضة بفعل اتفاقية ” سايكس – بيكو “، وقوة الأوامر الصادرة من الاحتلال الإمبريالي للعراق و طاقمهم السياسي الذي كبرت عنده ” القابلية ” للاستعمار في سبيل حصوله على موقع في السلطة السياسية المنقوصة السيادة والسلامة الوطنية – القومية.

1 – حول التفسير الأنثروبولوجي السياسي للمشاهد السياسية بكل إيجابياتها وسلبياتها راجع دراستنا المنشورة في موقع كلنا شركاء ” في سوريا ” وموقع المحرر ” في استراليا ما بين 25/1 – 2/2/2005.تحت عنوان ” التفسير الأنثروبولوجي للعداوة بين الأحزاب القومية- حزب البعث و الناصري أنموذجاً.

2 – العلامة ابن منظور – لسان العرب – ج3 دار إحياء التراث العربي – مؤسسة التاريخ ط3 – 1999- ص79 – بيروت لبنان.

3 – العلامة الشيخ رضا – معجم متن اللغة – ج 2 دار مكتبة الحياة – بيروت 1958.

4 – د. محمد زاهر سعيد السماك: الجغرافيا السياسية المعاصرة – دار الأمل للنشر والتوزيع – اربد – الأردن ص107 ص108- ط11 -1998.

5 – المرجع السابق – ص108.

6 – د. عامر رشيد مبيض – موسوعة الثقافة السياسية الاجتماعية والاقتصادية العسكرية – مصطلحات – ومفاهيم – دار المعارف للنشر والطباعة والتوزيع دمشق – ص560 – 2000.

7 – المرجع السابق ص 561.

8 – المرجع السابق ص555.

9 – شالوت سيمون – سميث – موسوعة علم الإنسان ترجمة مجموعة أساتذة من مصر بإشراف د. محمد الجوهري – المجلس الأعلى للثقافة – القاهرة – ص134 1994.

10 – أولف هانا رز – الحدود – المجلة الدولية للعلوم الاجتماعية – اليونسكو – سبتمبر – 1997 – العدد ( 135 ) ص122 ص123.

11 – بابلو فيلا – تكوين الهويات الاجتماعية في سياقات ما يتجاوز الحدود القومية – قضية الحدود المكسيكية – ت: عبد الحميد فهمي الجمال – المجلة الدولية للعلوم الاجتماعية – العدد ( 153 ) ص 108-109 بدون تاريخ.

12 – المرجع السابق – ص111.

13 – راجع دراستنا من أجل مدرسة عربية في الانثروبولوجيا النقدية – الفكر السياسي – العدد ( 20 ) خريف 2004 – دمشق ص221-229.

14 – هذا الجزء مأخوذ من كتابي: مقاربة من مفهوم الدور الحضاري في فكر ميشيل عفلق – تحليل ثقافي. بيروت – 2000.

15 – راجع كتاب: النظرية الاجتماعية من بارسونز الى هابر مابس إيان كريب – ت – محمد حسين علوم – عالم المعرفة الكويت 1999 – ص226-23.

16 – المرجع السابق – ص130.

17 – د. عزالدين دياب – محاولة لفهم دور الفرد العربي في النهضة العربية المعاصرة – شؤون عربية – العدد رقم 4 1986.

18 – د. زكي نجيب محمود – تجديد الفكر العربي – القاهرة 1973.

19 – رالف لنتنون – الأصول الثقافية للنهضة- ت – عبد الملك الناشف – 1964 – لبنان – بيروت.

20 – د. أنور عبد الملك- دراسات في الثقافة الوطنية – دار الطليعة – لبنان 1967.

21 – رالف لنتون – المرجع السابق.

22 – د. محمود الزلبان – القيم الاجتماعية – القاهرة – مكتبة الجامعة – 1973.

23 – د. محمد فاضل الجمالي – محاضرة ألقيت في أعمال اللجنة الثقافية – تونس – كلية العلوم الاجتماعية الجامعة التونسية – 1988.

24 – ت. س. إليوت –ملاحظات حول تعريف الثقافة – وزارة الإرشاد القومي – القاهرة.

25 – يرجى الرجوع إلى دراسة بابلوفيلو – المرجع السابق الذكر حول الحالة الحدودية في المكسيك وأمريكا.

Exit mobile version