سلطان محيسن
يختص علم الأنتروبولوجيا القديمة paleoanthropology بدراسة نشوء الإنسان القديم phyloenie وتطوره. وهو يسعى إلى معرفة أصل الإنسان وتحديد التحولات الفيزيولوجية والحضارية التي طرأت عليه على امتداد العصور. وتعود المحاولات العلمية الأولى لفهم أصل الإنسان إلى القرنين السادس والخامس قبل الميلاد، عندما حاول فلاسفة اليونان تفسير الوجود الإنساني بمعزل عن الميتولوجية السائدة في حينه. تبعهم في ذلك فلاسفة العرب المسلمين في العصور الوسطى. ومع بداية عصر النهضة في القرن التاسع عشر أخذ هذا الموضوع أبعاداً جديدة ومختلفة فظهر تيار علمي جاد يعتمد على البحث العلمي المدعم بالأعمال الميدانية والمخبرية من أجل تحديد مكانة الإنسان في عالم الطبيعة والحياة. وقد توج هذا التيار بأعمال الباحث الإنكليزي شارل داروين Ch. Darwin الذي لخص أفكاره في كتابيه: «أصل الأنواع» و«أصل الإنسان» بالمبادئ التالية:
ـ أن عالم الحياة هو عالم متحول، وليس ثابتاً، والأنواع الحية تتبدل باستمرار فتظهر أنواع جديدة وتختفي أخرى قديمة.
ـ إن تحول عالم الحياة بطيء وتدريجي ويستمر زمناً طويلاً وليس مفاجئاً ولا يتم في قفزات.
ـ إن الأحياء كلها تعود إلى أصل واحد ومشترك.
ـ إن عملية التطور والتحول تخضع لقانون الاصطفاء الطبيعي القائم على صراع الأنواع وبقاء الأفضل.
وقد أثارت الداروينية نقاشاً بقي مستمراً حتى اليوم، وحققت العلوم المتعلقة بأصل الإنسان إنجازات مهمة على هذا الصعيد، إذ يصنف الباحثون في هذا المجال الإنسان بأنه كائن ينتمي إلى عالم الحيوان الذي تتفرع عنه تدريجياً شعبة الفقاريات، ومنها صف الثدييات التي تفرعت عنها الرئيسات Primates التي خرجت منها فصيلة الإنسانيات، ومنها تفرع جنس الإنسان الذي يمثل قمة تطور تلك الرئيسات. وتجدر الإشارة إلى تباين وجهات نظر الباحثين حول سير خط عملية تطور الإنسان وتفاصيلها، وإن كانت الأكثرية ترى أن أقدم الرئيسيات الحفرية هو ما سمي بالقرد المصري Aegyptopithecus الذي وجدت أجزاء من هيكله العظمي في الفيوم بمصر حيث عاش منذ نحو ثلاثين مليون سنة، ومنه تطور نوع آخر من الرئيسات سمي القرد الشجري، الدريوبيتك Dryopithecus الذي عاش في إفريقية منذ نحو عشرين مليون سنة. ومنذ نحو 15 مليون سنة حصل تبدل جغرافي ومناخي مهم فاتصلت إفريقية ببقية القارات وأصبح مناخها أقل حرارة، وتراجعت الغابات الكثيفة لتنتشر الأحراج. وقد رافق تلك التحولات ظهور نوع جديد من الكائنات هو الرامابيتك Ramapithecus، الذي عاش بين نحو 8 – 15 مليون سنة في مختلف مناطق العالم القديم. ويعتقد الكثيرون أن الرامابيتك هو الجد المباشر الذي تطور منه الإنسان معتمدين على التشابه الفيزيولوجي بينه وبين الإنسان، وخاصة فيما يتعلق بالفكين والأسنان. وهكذا فالرامابيتك كان الكائن الذي ترك العيش على الشجر وسار على قدمين وتلاءم مع نمط الحياة على الأرض ليتطور في مرحلة لاحقة نحو الإنسان. في حين تطور الدريوبيتك نحو القرد. ومهما يكن فإنه في ضوء واقع البحث الحالي يجب التأكيد أن الإنسان نفسه لم يتطور من القرود المعروفة اليوم وأن هذه القرود ليست نماذج بشرية بدائية، وهي لن تتطور نحو الإنسان كما قد يظن البعض، ولكن للقرود والإنسان صفات مشتركة كثيرة تشير إلى انحدارهما من أصل واحد مشترك، ليس قرداً ولا إنساناً، تفرعا عنه، وسار كل منهما في طريق منفصل منذ أكثر من عشرين مليون سنة خلت. وقد ظهرت أنواع مختلفة من الرئيسات، لكنه يبدو أن نوع الرامابيتك هو الذي تطور نحو الإنسان.
إن ما يميز الإنسان من بعض الرئيسات مجموعة صفات فيزيولوجية هي: القامة المنتصبة، والوجه القصير، وحجم الدماغ الكبير، والقدرة على تصنيع الأدوات الحجرية، واللغة والتفكير. وهي صفات يمكن تحديدها من قبل علماء الأنتروبولوجية القديمة والآثار وغيرهم.
لقد أظهرت الأبحاث المتعلقة بأصل الإنسان أنه منذ نحو 5 – 6 ملايين سنة وجدت في القارة الإفريقية أنواع من الرئيسات كانت تسير منتصبة القامة ولها حجم دماغ كبير نسبياً. وقد أخذت هذه الكائنات تتطور وتزداد، وتكتسب صفات فيزيولوجية قريبة إلى صفات الإنسان إلا أنها لم تتمكن من تصنيع الأدوات المنتظمة مما أبقاها خارج الشروط الإنسانية الكاملة. وقد وجدت هياكل تلك الكائنات في الكثير من مناطق إقليم عفار في جيبوتي وأطلق عليها الباحثون اسم القرد العفاري الأوسترالوبيتك العفاري Australopithecus afarensis ويسميها بعضهم ما قبل الأوسترالوبيتك Pre-Ausralopithecus. إن معظم ما عثر عليه من هياكل هذه الكائنات لم يكن أكثر من عدة أسنان أو أجزاء من جمجمة بقيت محفوظة على امتداد الزمن. ولكن في حالة واحدة، ونادرة، عثر في موقع حضر في إقليم عفار على هيكل عظمي بقي نحو 4% منه سليماً، مما سمح بإعادة تصور كامل الهيكل الذي أطلق المكتشفون عليه اسم لوسي. وقد دلت الدراسات على أن «لوسي» كانت قصيرة القامة لم يزد طولها على المتر إلا قليلاً، ولكنها كانت تسير على قدمين. وأن حجم دماغها صغير لم يتجاوز 500سم3 ووزنها نحو 30كغ. إن لوسي لم تعرف صنع الأدوات والأسلحة لذلك لا يمكن أن يطلق عليها اسم الإنسان، وفق الشروط التي ذكرت سابقاً. ولكن هذا الاكتشاف يعدّ دليلاً مؤكداً ومباشراً على انتصاب القامة لدى الرئيسات أسلاف الإنسان. وقد تأكد ذلك بعد العثور على بقايا طبعات أقدام لكائنات عاشت في تنزانية بإفريقية، وكانت تسير على قدمين أيضاً وبقيت آثار دعساتها محفوظة في الرماد البركاني مع مرور نحو 3.6 مليون سنة عليها.
إن الكائنات التي ينطبق عليها هذا التعريف الفيزيولوجي الحضاري قد كشفت أول مرة في إفريقية منذ مطلع القرن العشرين. إذ عثر على بقايا الإنسان، من قبل الباحثين الإنكليزيين ريموند دارت R.Dart ثم لويس ليكي L.Leakey في كثير من المواقع في جنوب إفريقية وتنزانية ومن قبل آخرين في أثيوبية، وأعطيت تلك المكتشفات تسميات مختلفة يمكن جمعها كلها، على تباينها الكبير أحياناً، تحت اسم واحد هو: الأوسترالوبيتك وهو أنواع، بعضها نحيف وبعضها الآخر سمين. ومنه تفرع نوع آخر أكثر تطوراً هو الهومو – هابيل Homo Habilis أي الإنسان الماهر، الذي عاش في بيئة شبه صحراوية غنية بنباتات وحيوانات السافانا كما هي الحال اليوم. وعثر على البقايا العظمية، أسنان وجماجم، لهذا الإنسان في طبقة جيولوجية أرخت بنحو 2.5 مليون سنة، وكانت ترافقه أدوات حجرية بدائية جداً من الأحجار القاسية والسهلة التصنيع كالصوان والكوارتز، قُدَّ جانباها أو أحد جانبيها بالطرق فصار لها حد قاطع يمكن استخدامه عند الحاجة. ومن الناحية الفيزيولوجية فإن هذا النوع قد حمل صفات بدائية، فهو قصير القامة (150سم)، وحجم دماغه صغير يراوح بين 650 – 750سم3 وجمجمته قليلة التكوير وجبهته مائلة إلى الخلف، ووجهه بارز إلى الأمام، وفكاه وأسنانه غليظة، وعظام حاجبيه بارزة وغليظة ومتصل بعضها ببعض. وإذا استثنيت الأدوات الحجرية البسيطة فلا يعرف الكثير عن آثار ذلك الإنسان، الذي عاش على التقاط النباتات البرية واصطياد الحيوانات، وربما أقام أكواخاً متواضعة ولكن لم يبق ما يدل عليها دلالة قاطعة. ولا يُعرف فيما إذا كان هذا الإنسان قد استفاد من النار لأنه لم يعثر في مواقعه على دلائل حاسمة لذلك. ومن غير المستبعد أن يكون قد استخدم النار الطبيعية عند الحاجة. كما لا يعرف شيء عن حياته الروحية والاجتماعية، ولابد أنه عاش في جماعات صغيرة تنقلت طلباً لمصادر العيش، وربما كانت له لغة بسيطة يتفاهم بها مع بني جنسه. كما لم يعثر حتى اليوم على أي آثار لهذا النوع الأول من البشر خارج القارة الإفريقية. مما يدل على أنه لم يغادر حدود هذه القارة حيث عاش نحو مليون سنة قبل أن يظهر نوع آخر أكثر تطوراً منه .
ومنذ نحو 1.5 مليون سنة، ظهر نوع جديد من البشر متطور في صفاته الفيزيولوجية والحضارية عن الإنسان الماهر. ولهذا النوع تسميات اختصاصية مختلفة أيضاً يمكن جمعها تحت اسم واحد هو الإنسان المنتصب (الهومو إركتوس) Homo Erectus أي الإنسان المنتصب القامة ويطلق عليه اسم الأركانتروب Archanthropien أيضاً. لقد عثر على هذا النوع من البشر، أول مرة، في جزيرة جاوة في إندونيسية، في أواخر القرن التاسع عشر من قبل الطبيب الهولندي أوجين دوبوا E.Dubois. ثم اكتشفت هياكل أخرى في الصين فشاعت تسمية إنسان بكين أو الإنسان الصيني. لقد كان الإنسان المنتصب أطول قامة من سلفه (150 – 160سم) وكان حجم دماغه أكبر (800 – 1200سم3)، جمجمته أكثر تكوراً، وجبهته أقل ميلاناً إلى الخلف، وعظام حاجبيه بارزة ومتصلة ولكن ذقنه ظلت غير واضحة، وكان أكثر عدداً من سلفه وأقدر على السيطرة على بيئته، وهو أول إنسان خرج من القارة الإفريقية ودخل إلى مناطق جديدة في آسيا وأوربة، ويعتقد أن الإنسان الأول الذي مهده الوطن العربي كان من نسله، وقد وجدت هياكله العظمية المباشرة في مواقع من سورية وفلسطين وتونس والجزائر. وكشف مؤخراً في موقع الندوية في البادية السورية عن جزء من جمجمة هذا الإنسان هو الأكمل في الشرق الأوسط كما وجدت هياكله العظمية وآثاره الأخرى وخاصة الأدوات الحجرية في الكثير من مناطق إفريقية وأوربة. لقد كان الإنسان المنتصب، كما ذكر، أكثر تطوراً من سلفه إذ استفاد استفادة أكثر من الملاجئ والمغارات الطبيعية واهتدى إلى بناء الأكواخ البسيطة التي دلت عليها الاكتشافات من تنزانية وسورية (موقع اللطامنة) وفرنسة. وبفضل هذه الأكواخ استطاع أن يسكن مختلف المناطق بغض النظر عن طبيعة مناخها. ولقد ستر جسمه بأوراق الأشجار والنباتات وجلود الحيوانات التي وجدت طبعاتها في بعض أكواخه في جنوبي فرنسة. كذلك عرف الإنسان المنتصب النار مبكراً مكتشفاً فوائدها الهائلة سواء في التدفئة، في مناخ جليدي، أو في إنارة المغارات والملاجئ المظلمة التي سكنها أو في شي اللحوم النيئة وطبخها، كما أنه استخدم هذه النار في حماية نفسه والدفاع عن حياته في وجه الحيوانات المفترسة التي كانت تتعرض له وتهدده باستمرار. وقد عثر على الدلائل في كينية بإفريقية، وهي تؤرخ بنحو مليون سنة. ولكن منذ نحو نصف مليون سنة أصبحت هذه الدلائل أكثر كثافة وانتشاراً سواء في آسيا، كما دلت مكتشفات الصين أو في المشرق العربي القديم، (في سورية)، أو في أوربة كالمجر وإسبانية. وقد طور هذا الإنسان قدرته على الصيد فاصطاد حيوانات كبيرة ومتوسطة الحجم كالفيل ووحيد القرن وفرس الماء والدب والحصان وبذلك قل اعتماده على النباتات فأصبح يتغذى باللحوم أساساً. وقد صنع الإنسان المنتصب أسلحة وأدوات حجرية فعالة على رأسها الفؤوس اليدوية ذات الحدين bifaces وهي أدوات كبيرة مصنعة بدقة ولها حدان قاطعان ورأس حاد وقبضة دائرية وأشكالها مختلفة، متطاولة أو بيضوية أو مثلثة أو غيرها، استخدمت في أعمال مختلفة كالقطع والقلع والحفر والسحق والطعن وغيره. كما صنع هذا الإنسان الأدوات العظمية والخشبية ولكن لم يكتشف منها إلا القليل جداً بسبب فنائها عبر الزمن. وتنسب المخلفات الحضارية لهذا الإنسان إلى ما يسمى بالحضارة الآشولية نسبة إلى موقع سان آشول Saint Acheul في حوض نهر السوم Somme بفرنسة حيث اكتشفت آثار هذه الحضارة أول مرة. إن الحياة الاجتماعية للإنسان المنتصب كانت أكثر تنظيماً من سلفه فقد عاش في نطاق أسرة وقف على رأسها أب تبعت له زوجة أو عدة زوجات وأولاد. وعرف تقسيم العمل بحسب الجنس والسن، فاشتغل الرجال في المجالات الشاقة كالصيد في حين عملت النساء في الالتقاط وفي تدبير أمور البيت والأولاد، وقد أشارت الدراسات التي أجريت على مناطق النطق في المخ إلى أن الإنسان المنتصب كان يملك لغة واضحة المفردات والمعاني شكلت الرباط النفسي القوي بين مختلف أفراده وجماعاته التي تناقلت تجاربها ومعارفها عبر هذه اللغة، وليست الأدوات والأسلحة إلا الدليل المادي المباشر على ذلك. إن المعلومات عن الحياة الروحية لذلك الإنسان، شبه معدومة وهناك بعض الدلائل التي تشير إلى أنه كان يأكل اللحم البشري بدوافع دينية وعقائدية.
إن المرحلة التي تفصل بين الإنسان المنتصب وبين ظهور نوع جديد آخر هو إنسان النياندرتال هي مرحلة غامضة ومعقدة جداً، لأن طبيعة العلاقة التطورية بين الإنسان المنتصب وإنسان نياندرتال، وبين هذين النوعين ونوع الإنسان العاقل الذي ظهر في العصر اللاحق، مازالت غير معروفة. وبغض النظر عن بعض التفاصيل يمكن القول إنه منذ نحو 200.000 سنة ظهر نوع ثالث من البشر كان أكثر تطوراً، في شكله الفيزيولوجي وفي إنجازاته الحضارية، من الإنسان المنتصب. عثر عليه أول مرة في وادي نياندر في ألمانية، ومن هنا أتت تسمية النياندرتال Neandartal كما يسميه البعض البالينتروب Paleanthropien
ثم تتالت المكتشفات من القارات الثلاث، لتؤكد وجود هذا النوع من البشر في عصور ما قبل التاريخ. وقد أوضحت دراسة الهياكل العظمية المختلفة أن إنسان النياندرتال كان أكثر تطوراً من سلفه الإنسان المنتصب وكان غليظ الجسم مربوع القامة، طوله يراوح بين 160 – 165سم، حجم دماغه كبير (1200 – 1400سم3)، وجهه مسطح وأقل بروزاً إلى الأمام، وحاجباه على بروزهما أقل ثخانة منهما لدى سلفه، كما أن جمجمته أكثر تكوراً وجبهته أقل تراجعاً إلى الخلف، ولكن بذقن شبه واضحة كما لوحظ أول مرة. لقد كان النياندرتاليون أكثر عدداً من سابقيهم وانتشروا في مناطق جديدة، لم تسكن من قبل بسبب برودة مناخها، وقد وصلوا شمالاً حتى سيبيرية بعد أن أتقنوا صناعة الملابس من الجلود الدافئة. كما أنهم استغلوا المغارات والملاجئ الطبيعية، التي قاموا بتطويرها وإعادة تنظيمها وتقسيمها فبنوا فيها المصاطب والجدران ووسعوا، أو ضيقوا، مداخلها بحسب الحاجة. والأهم من ذلك أنهم استفادوا من النار استفادة أفضل وعرفوا كيف يوقدونها، بطرق مختلفة كالقدح والحك والفتل وما إلى ذلك من الأساليب. ولقد عُثر على الكثير من المواقد المنتظمة في المواقع التي سكنها النياندرتاليون. بعض هذه المواقد صغير وآخر كبير، بعضها بسيط وبعضها أكثر إتقاناً بحسب أهمية الموقع ومدة السكن فيه. وكان إنسان نياندرتال صياداً ماهراً قتل حيوانات قوية وخطرة كالماموت ووحيد القرن، واستفاد من لحمها وجلدها وعظمها، كما ابتكر أسلحة وأدوات حجرية جديدة معظمها مقاحف وسكاكين ونصال ومخارز. وآثار هذا الإنسان تنسب إلى ما يعرف بالحضارة الموستيرية، نسبة إلى موقع موستير Le Moustier في جنوبي فرنسا، ولقد صنع إنسان نياندرتال الأدوات المركبة ذات القبضات الخشبية أو العظمية والنصلة الحجرية الحادة، إضافة إلى أنه استخدم الأدوات الخشبية والعظمية الخالصة. وكان أول من مارس المعتقدات الروحية والشعائر الدينية التي رسخت ترسيخاً قاطعاً، إنسانيته. فهو لم يترك موتاه تأكلها الوحوش والطيور الجارحة بل اهتم بهم ودفنهم بعناية، وقد عثر على القبور النياندرتالية في المغارات والملاجئ أو المواقع المكشوفة التي سكنها هذا الإنسان في مناطق كثيرة كفلسطين والعراق وفرنسة والاتحاد السوفييتي سابقاً، وخاصة في أودية القفقاس الشمالي وغيرها. وكان آخرها هيكل عظمي لطفل عمره نحو سنتين عثر عليه في مغارة الديدرية في وادي عفرين في سورية، في أثناء تنقيبات قامت بها بعثة سورية يابانية (1987 – 1992)، وكان الطفل قد دفن في هذه المغارة منذ نحو 100.000سنة، وهو الهيكل النياندرتالي الأكمل من نوعه حتى اليوم في العالم كله. وكانت القبور فردية غالباً وتضم شخصاً واحداً، وقليلاً ما تكون جماعية تحوي عدة أشخاص، وهي محفورة على نسق منتظم، ووضعت فيها الجثث مثنية أو جانبية أو مقلوبة وطليت بالألوان وزودت بالأسلحة والأدوات والأطعمة وغير ذلك. وهذا يدل على أن النياندرتال كان إنساناً عميق المشاعر تأثر بالموت واتخذ منه موقفاً محدداً. وقد خص جماجم موتاه، أي رؤوسهم، بعناية متميزة فدفنها مستقلة، بل إنه في بعض الأحيان أكل أجزاءً من هذه الجماجم، كالمخ خاصة، مدفوعاً باعتبارات اجتماعية – دينية كالرغبة في اكتساب ذكاء الميت وقوته وليس إرضاءً للجوع كما يزعم البعض. ويسود اليوم اعتقاد آخر يقول إن النياندرتال عبد الدب، فقد عثر في بعض المغارات الجبلية المرتفعة في ألمانية وسويسرة وجنوبي فرنسة، على كثير من جماجم الدببة المدفونة بعناية في قبور من الحجر. كما أنه مارس الفنون البدائية.
تتباين آراء الباحثين حول إنسان النياندرتال، ففي حين يعتقد البعض أنه تطور إلى الإنسان العاقل الحالي، يقول آخرون بانقراضه من دون خلف، ويعدونه فرعاً جانبياً على هامش العملية التطورية. ويعتمد أنصار تطور النياندرتال على المكتشفات في فلسطين حيث وجدت عدة هياكل عظمية بشرية لها صفات فيزيولوجية مشتركة بين النياندرتال وبين الإنسان العاقل، مثل حجم الدماغ الكبير، (نحو 1500سم3)، والقامة الطويلة 170 – 180سم إضافة إلى الذقن البارزة. وهذه كلها صفات متطورة حملها الإنسان العاقل بوضوح فيما بعد. كل ذلك دفع إلى الاعتقاد أن النياندرتال قد تحول في فلسطين، تدريجياً نحو الإنسان العاقل. ويستند أنصار نظرية انقراض النياندرتال على معطيات أتت من غربي أوربة من بعض المواقع في فرنسة (فونتوشوفاد) وألمانية (شتاين هايم) وإنكلترة (سوانسكومب) التي وجدت فيها هياكل عظمية لا تحمل صفات مشتركة بين النياندرتال والإنسان العاقل ولكنها ذات صفات مشتركة بين الإنسان المنتصب وبين الإنسان العاقل مما دفع إلى الاعتقاد أن النياندرتال لم يكن السلف المباشر للإنسان العاقل وإلا لكان هذا الأخير حمل بعض صفاته، وأن هذا السلف كان الإنسان المنتصب بدليل انتقال صفات هذا الإنسان إلى الإنسان العاقل كما ظهر في عدة مناطق من أوربة وإفريقية. وهكذا فإن الإنسان العاقل يكون قد تطور من الإنسان المنتصب من دون أن يمر بمرحلة النياندرتال، ويكون كل من النياندرتال والإنسان العاقل فرعين مستقلين تطور كل منهما عن الإنسان المنتصب. وقد انقرض الفرع الأول، أي النياندرتال، في حين تابع الفرع الثاني وهو الإنسان العاقل طريقه التطوري. والواقع أن الباحثين مازالوا بعيدين عن هذا الموضوع نهائياً وذلك أن المكتشفات قليلة والتفسيرات النظرية أكثر مما يحتمله واقع تلك المكتشفات. ولابد من الإشارة إلى معطيات جديدة تدل على معاصرة كل من النياندرتال والإنسان العاقل أحدهما للآخر كما دلت المكتشفات الفلسطينية مما يطرح من جديد قضية العلاقة بين هذين النوعين.
الإنسان العاقل
تدل كل المعطيات المتوافرة حتى اليوم على أن الإنسان العاقل Homo sapiens الذي يسمى أيضاً النيانتروب Neanthropiens كان النوع الإنساني الرابع والأخير في عصور ما قبل التاريخ. لقد ظهر هذا الإنسان، عموماً، منذ نحو 40000 سنة وقد أحدث ظهوره انعطافاً جوهرياً في مسيرة التطور البيولوجي والحضاري للبشرية. ولقد وجدت هياكله الأولى منذ نحو منتصف القرن التاسع عشر في موقع كرومانيون Cro-Magnon. وحتى اليوم توافرت مئات الاكتشافات للإنسان العاقل، التي دلت دراستها على أن هذا النوع هو السلف المباشر للإنسان المعاصر، لأنه امتلك تقريباً كل الصفات الفيزيولوجية والاجتماعية التي يمتلكها إنسان اليوم. ومن أجل تمييز أنواعه القديمة، التي عاشت في عصور ما قبل التاريخ، من النوع الحالي فقد أطلق على تلك الأنواع اسم الإنسان العاقل الحفري (المستحاثي) Homo sapiens fossilis في حين يطلق على إنسان اليوم اسم الإنسان العاقل الحديث H.s.recent. لقد كان الإنسان العاقل الحفري طويل القامة 160 – 170سم، جمجمته مكتملة التكور، جبهته عريضة ومستقيمة، ووجهه مسطح، وذقنه بارزة، وحجم دماغه يراوح بين 1400 – 1700سم3، وأسنانه وفكاه تحمل صفات مثيلاتها لدى الإنسان الحالي.
دفع ظهور الإنسان الحضارة الإنسانية نحو الأمام دفعاً كبيراً إذ بلغ المستوى الاجتماعي والاقتصادي درجة عالية من التقدم والتنوع مثلته ابتكارات جديدة في مجالات كثيرة كالأسلحة والأدوات الحجرية والعظمية والأواني الفخارية مروراً بالبناء والفن والمعتقدات وانتهاءً بالاستقرار والزراعة والتدجين. وقد انتشر الإنسان العاقل في كل أرجاء المعمورة، وهو أول من سكن القارتين، الأمريكية والأسترالية. وهكذا كان النوع الوحيد الذي سكن كل القارات متكيفاً بمهارة فائقة مع بيئاتها الجغرافية المتباينة.
ومن الأمور المهمة التي تشغل الباحثين تحديد ما إذا كان الإنسان العاقل قد ظهر في مكان واحد فقط ومنه انتشر إلى بقية الأماكن، أو أنه ظهر في عدة مناطق. وهناك أنصار لنظرية المنشأ الواحد وأنصار لنظرية تعدد المنشأ، علماً أن المعطيات الحالية تشير إلى منشأ واحد هو إفريقية. كما تختلف الآراء حول حلقات التطور الرئيسية التي مر بها الإنسان، فهناك من يقول بأن الإنسان العاقل الحالي قد نشأ متطوراً عن النياندرتال الذي تطور عن الإنسان المنتصب والذي أتى متطوراً عن الإنسان الماهر، في حين يقول آخرون بأن الإنسان العاقل الحالي قد تطور عن الإنسان المنتصب الذي تطور عن الإنسان الماهر من دون المرور بمرحلة النياندرتال، وهذا الموضوع مازال قيد الدرس. كما تواجه الباحثين قضية تتعلق بأصل التمايز العرقي وفيما إذا كان ظهور العروق: الأبيض والأسود والأصفر والأحمر يعود إلى الإنسان العاقل أو أنه سبق ظهور ذلك الإنسان. كل هذه القضايا وغيرها مازالت تخضع لأبحاث من المتوقع أن تساعد المكتشفات المتزايدة على إيضاحها.