موقع أرنتروبوس

ألكسيس دي توكفيل واستعمار الجزائر (ج2)

 

ألكسيس دي توكفيل (ج2)

المنهجية التوكفيلية :

فيما يخص منهجيته التي يراها الباحثان  ”جون-بيار ديلاس” و” برينو ميلي” بأنها أصيلة٬ نجدهم يقولان ” يمكننا الوقوف على العديد من الميزات الرئيسية في طريقة عمل توكفيل، يعمل كاثنوجرافي حقيقي كما يتضح من خلال نشر دفاتر استطلاعاته التي دون – سجل – فيها الملاحظات والاستبيانات وتقارير المقابلات، وهو بعيد كل البعد عن الطريقة التي يعمل بها جميع المفكرين الاجتماعيين، خاصة في الوقت الذي كان فيه الميل إلى التفكير التجريدي والاستنباطي، طريقته مبنية بدقة: تسجيل في الحين٬ الاستماع دون التحيز، اعداد كل مقابلة بالتفصيل إلخ، بدلا من الاعتماد على الكتابات – الأدب – التي تم إنتاجها بالفعل، اختيار وجمع المواد الخام: النصوص القانونية والرسمية، المقابلات مع الشخصيات والملاحظين للديمقراطية في أمريكا – كتابه الأول- والمحفوظات الإدارية ودفاتر الولايات العامة (Etats Généraux) والمقارنات مع دول أو مناطق أخرى للنظام القديم.[1]

نشير هنا إلى أننا قد وقفنا فعلا على كافة هذه التفاصيل المنهجية والمتمثلة في الطريقة المعتمدة عند هذا المفكر، والذي بالفعل يعد من كبار علماء الاجتماع ورائدا لهذا العلم بدون منازع، بل كذلك عالما انثروبولوجيا اعتمد على الطرائق التي هي اليوم الأكثر صدقا واستعمالا في جمع البيانات والمعلومات وهذه المنهجية موجودة في أعماله حول الجزائر، وكذلك حول الديانات وبالخصوص الاسلام الذي يهمنا في هذا العمل.

وعن جدية وجودة منهجيته يقول كل من “جون بيار ديلاس” وزميله “برينوميلي” : “لكن عمله لا يتوقف عند هذا الحد. إنه بالفعل يستغل ملاحظاته لتطوير نماذج حقيقية، قريبة مما سيطلق عليه “ماكس فيبر” ” النماذج المثالية، وبالتالي فإن تعريفاته لـ “الأرستقراطية” و”الديمقراطية” هي نموذجية لقدرته على التنظير من خلال الملاحظات الأمبريقية- الميدانية.[2]

“إنه معروف أيضا بمنهجه التاريخي والمقارن لاسيما بين فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، إلا أنه يمكننا أن نلومه على رؤيته التطورية، وحتى كذلك الأثنوسترية: يبدو أن تكافؤ الظروف بالنسبة له عالمي ولا رجعة فيه، تحليلاته قد بينت خصوبتها في دراسة سيرورة الثورة والتحول الديمقراطي”.[3]

ومن الملاحظات المنهجية التي سجلها الباحثان حول “منهجية توكفيل كونه “يعطي للفرد دورا قياديا، هذا الموقف في الواقع،  قد وفق عليه “ريموند بودون Raymond Boudon ٬ أحد رواد الفردانية المنهجية. يمكننا أن نأخذ على سبيل المثال٬ أمثلة مشهورة “أفعال التشكل” وتكون قلب التفسير الفرداني للاجتماعي، وذلك عن طريق سلسلة من الظواهر وصفها توكفيل. هكذا٬ ميل الأفراد للانزواء – الانطواء – في إطار الدائرة الخاصة، يؤدي إلى الاستبداد: “سلطة هائلة ووصاية” تحيط المجتمع ب “عبودية منظمة” ٬”لطيفة ومسالمة”

هذه في الواقع نتيجة غير مرغوب فيها لأفعال فردية منسجمة، ولكن التقارب بينها يكون منحرفا وليس فعل متعمدا للطاغية. في نفس الوقت، التأكيد الغريب على أنه “لا توجد حرية ذهنية في أمريكا” يسبق مثل هذه الطريقة.

لا حاجة لاستبداد أو رقابة أو قوانين، لأن الضغط البسيط و “الرأي العام” يكفي لحظر التعبير عن وجهات نظر متباينة: “هذا لا يعني أن الكاتب يخاف على نفسه من حكم بالحرق وإنما لكونه عرضة لكل أنواع الاشمئزاز والاضطهاد “.

نحن هنا فيما يسمى اليوم ب “دوامة -دائرة -الصمت” التي تقود الرأي السائد على تقوية نفسه”.[4]

وحول كيفية عمل توكفيل وصديقه بومون نجد الباحث “مانسفيلد” يقول: “كانا يتنقلان باستخدام السفن البخارية، ويمكثان في أكواخ خشبية، وقد أجريا مقابلة قصيرة مع الرئيس الأمريكي أندرو جاكسون، كما تحدثا باستفاضة مع العديد من الأمريكيين، سواء أكانوا شخصيات بارزة أم أشخاصا عاديين. وتمثل منهج توكفيل في البحث المسحي في طرح أسئلة تتناسب مع الشخص الذي يتم سؤاله، ثم الاستماع لما يقوله ومحاورته بحثا عن حقائق وآراء، بدلا من تصنيف ردود الفعل على المجموعة ذاتها من الأسئلة كما يفعل أي عالم اجتماع معاصر”.[5]

وعليه يمكن القول بأن منهجية توكفيل بعيدة جدا عن تلك التي كان يتبعها العديد من المفكرين سواء الذين جاؤوا قبله أو خلال المرحلة التي كان متواجدا فيها. كما تتميز هذه  المنهجية بالجرأة العلمية والبعد الأمبريقي أكثر من النظري، حيث كان يعمل على الوصول إلى المعطيات أو المعلومات من مصدرها المباشر، ولهذا نجده قد وظف العديد من التقنيات الخاصة بكل من علماء الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع بالخصوص كالاعتماد على الاستمارة في جمع المعلومات، وكذل العودة إلى كل من المقابلات والتي لم يعتمد عليها فقط في كتابه الشهير “الديمقراطية في أمريكا” بل وجدناها في أعماله حول الجزائر والدين الإسلامي، فقد قام بالإشارة إلى العديد من المقابلات التي أجراها مع بعض الشخصيات العسكرية، القضائية والسياسية حول مسألة الاستعمار في الجزائر و طبيعته، وكذلك حول كيفية التعامل مع السكان الأصليين في مستعمرة الجزائر، دون أن ننسى المراسلات والتي تعد أحد أهم الوسائل أو التقنيات المنهجية في الإحاطة بالقضايا التي تشغل بال صاحبها ٬ولهذا كانت له المراسلات مع “بيجو”و مع أصدقائه “أرثور دي جوبينو، بومون…الخ.

بالإضافة إلى انتهاجه منهج المقارنة في دراسة العديد من الظواهر والقضايا، مثل المقارنة بين كل الديمقراطية في أمريكا وفرنسا، وبعدها بين فرنسا وبعض الدول الأوربية.

مقارنة طرق الاستيطان منذ القديم، فيما بينها للوصول إلى الطريفة التي هي  أكثر نجاعة بالنسبة لفرنسا في  مستعمرة  الجزائر.

كما اعتمد على المنهج التاريخي بالخصوص في دراسته الشهيرة حول الثورة الفرنسية والتي أخرجها في كتاب بعنوان “النظام القديم والثورة” عام 1856.

وعليه نقول بأن توكفيل كان رجل ميدان ، لم يكتفي بما كتب حول القضايا الكبرى التي كانت تشغل الساحة الفكرية بل قام بنفسه٬ بالنزول إلى الميدان بحثا عن الحقائق والعلل وراء كل المشكلات التي  تعصف بأوروبا عامة وفرنسا خاصة. فهكذا نجده قد قام بزيارة إلى أمريكا للوقوف على طبيعة النظام القائم وفهم خصائص الديمقراطية الأمريكية ثم مقارنتها بالديمقراطية في فرنسا.

 

 

المواضيع الأساسية في كتابات توكفيل :

و حول أهم أعماله نجد كل من ” مارك مانتوسي ” Marc Montoussé وزميله “جيل رونوار” Gilles Renouard يقولان: “ابن عائلة ملكية، لكنه مقتنع بضرورة الديمقراطية، ألكسي دي توكفيل، معروف بفضل كتابيه عن الديمقراطية في أمريكا، والذي نشر المجلد الأول منه عام 1835، وهو دراسة عن الآداب والأخلاق للنظام السياسي الأمريكي، وتأمل عام عن الديمقراطية، في النظام القديم والثورة (1856)، يبين توكفيل أن الثورة جزء من القطيعة ولكن في نفس الوقت هي استمرارية مع النظام القديم، من خلال أعماله، نتساءل عن إمكانية التوفيق بين القيمتين المساواة التي هي القيمة المميزة للديمقراطية والحرية التي يتمسك بها قبل كل شيء.[6]

ومن زبدة الأراء التي طرحها في هذه الأعمال نجد:

1– الديمقراطية تتميز بالمساواة في الظروف:

في ظل النظام القديم، يولد الأفراد غير متساوين في القانون، كل فرقة لها الحقوق والواجبات الخاصة بها، وبالتالي فإن رجال الدين كانوا لا يدفعون الضرائب، بينما كان أعضاء الطبقات الاجتماعية الأخرى يخضعون لضريبة الملح (ضريبة الملح)، السادة والخدام في المقابل كانوا يشكلون عالمين متميزين تربطهم علاقات سلطة.[7]

-على العكس من ذلك تتميز الديمقراطية ب “شرعية الظروف”-الأوضاع-

يشير توكفيل من وراء هذا المصطلح إلى حركة اجتماعية تجعل الأفراد يتطلعون إلى علاقات اجتماعية متساوية في المجتمع الحديث. هذا يترجم بالمساواة في الحقوق بالنسبة لكل فرد، إمكانية الوصول إلى مكانة اجتماعية.

يؤدي هذا بالنسبة لأكبر عدد  إلى مساواة فعلية معينة، لأن عددا متزايدا من الأفراد سوف يجتمعون في طبقة متوسطة والتي توفر لهم ظروف معيشية مماثلة.[8]

ب- تكافؤ الظروف يعزز الفردانية: بينما في ظل النظام القديم لم يكن بإمكان سوى قلة مميزة من الأشخاص اختيار الحياة التي كانوا يريدون عيشها٬ في الديمقراطية تسمح الزيادة في موارد الطبقة الوسطى، لعدد متزايد من الأفراد بالتمتع بالاستقلالية. يشير توكفيل من خلال مصطلح الفردانية إلى الشعور الذي يجعل كل فردا مركزا مستقلا لصنع القرار. هذا الشعور الشرعي، كما يعلمنا توكفيل، طالما أنه لا يؤدي بالأفراد غلى عزل أنفسهم عن المجتمع والعيش في مجموعات صغيرة عائلية، لأن المصلحة العامة سوف تختفي وراء تعدد المصالح الفردية. بعبارة أخرى٬ يجب أن لا تؤدي الفردانية إلى الأنانية.[9]

 

2- علينا التوفيق بين المساواة والحرية:

ا-الديمقراطية يمكن ان تؤدي الى استبداد الأغلبية :

_ يعتقد توكفيل على عكس ادم سميث أن السوق لا يكفي لخلف روابط اجتماعية .لذلك٬ إذا كان كل فرد٬ يرغب في ممارسة حريته بالكامل٬ مهتما فقط بمصلحته الشخصية فإن الديمقراطية ستؤدي إلى الفوضى، إلا أنه لا يعتقد أن الإفراط في الحرية هو الخطر الأكثر احتمالا الذي يهدد المجتمع.[10]

قبل كل شيء إنه يخشى “استبداد الأغلبية”. لأنه في الديمقراطية، الأفراد لديهم “شغفا شديدا بالنسبة للمساواة” وفقط “ذوق طبيعي للحرية”. الأفراد منحلين -ذائبين-هم مجردين من أي سلطة أمام الرأي العام. الخطر الرئيسي للديمقراطية هو الخضوع الطوعي إلى حد ما الإرادي للفرد لإرادة العدد الأكبر -الأغلبية-“[11]

ب- يمكن تجنب الاستبداد من خلال مشاركة المواطنين في الشؤون العامة.

نجد توكفيل مقتنع بأن الحرية والمساواة يمكن أن يندمجان و يعزز بعضهما البعض. وقد لاحظ ذلك أثناء إقامته في أمريكا وهو يعارض نقاء الديمقراطية الأمريكية مع عيوب التنظيم الاجتماعي الفرنسي. يقول٬ هو٬ ان الديمقراطية في فرنسا هي ثمرة تاريخ فوضوى الثورة قد دمرت الأنظمة القديمة دون أن تؤسس أخرى لتحمي كل من الأفراد والسلطة المركزية. على العكس من ذلك، في أمريكا٬ الديمقراطية فرضت نفسها بصفة طبيعية منذ وصول المهاجرين الأوائل. إنها حاضرة في شكلها الأكثر نقاوة٬ متخلصة من خبث التاريخ”[12]

– الشرط الأول للتوازن بين هاتين القيمتين هو الإمكانية المقدمة للأفراد للارتباط بحرية. يعتقد توكفيل أنه يحب أن يكونوا قادرين على العمل معا من أجل الصالح العام. كما انه يوافق بلا تحفظ على الفيدرالية الأمريكية واللامركزية التي تسمح للأفراد بالمشاركة في المؤسسات البلدية المختلفة. الجمعيات مهما كان طابعها٬ مدني أو سياسي، تشكل بالنسبة له قوة مضادة وفعالة وأساسية بالنسبة للسلطة المركزية، والتي دوما تكون قاتلة للحريات”.[13]

إلا أن توكفيل يخشى من أن إنشاء المؤسسات الحرة يكون غير كافيا في تهدئة المجتمع. لقد لاحظ أن التزمت في أمريكا هو عامل قوي بالنسبة للتماسك الاجتماعي، كما أنه يتساءل حول دور الأديان في خلق الرباط الاجتماعي.[14]

يقول الباحثان: “غالبا ما انتقد علماء الاجتماع الفرنسيون من النصف الأول من القرن العشرين، توكفيل بسبب افتقاره إلى الدقة في تعريف المفاهيم أو في الأساليب المستخدمة، على العكس من ذلك في الولايات المتحدة الأمريكية، تم الاحتفال بتوكفيل كواحد من كبار المفكرين السياسيين في القرن العشرين. يدرك الجميع اليوم أهمية هذه

الأسئلة والإجابات، التي غالبا ما تكون مثمرة، ولا تزال لحد الساعة تغذي التفكير”.[15]

ملخص المواضيع الأساسية للسوسيولوجيا التكوفيلية:

المبادئ: أدوارها وبعدها الاجتماعي:

يقول توكفيل في كتابه الديمقراطية في أمريكا: “لا يوجد مجتمع يمكن له أن يزدهر بدون معتقدات مماثلة أو بالأحرى، لا يوجد أي مجتمع باق على هذا النحو لأنه بدون فكرة مشتركة، لا يزال هناك رجال، ولكن ليس هناك جسد اجتماعي، ولكي يكون هناك مجتمع[…] فمن الضروري أن تلتقي جميع عقول المواطنين دائما مع بعضها البعض وتتماسك ببعض الأفكار الرئيسية”.[16]

تعد مسألة المبادئ٬ مسألة حاسمة بالنسبة ل “توكفيل”٬ حيث لا يتصور وجود مجتمع بدونها، خاصة قضية المعتقدات – الديانات – التي يرى بأنها أساس التلاحم والتماسك الاجتماعي.

تعد الفكرة المشتركة، القضية المحورية في صمود وبقاء المجتمعات وهذا ما وقف عليه توكفيل في أمريكا، وما رآه من تضامن وتماسك بفضل ما سماه “الديمقراطية الجمهورية” والتي تسيطر فيها الديانة المسيحية الكاثوليكية.

وعليه يعتقد توكفيل أن الدين المسيحي يلعب دورا حاسما في تقوية ومتانة الروابط الاجتماعية. إلا أننا نستغرب من مواقف هذا المفكر الذي يعيب على الجزائريين تمسكهم بالدين الإسلامي والذي يرى فيه أسباب الانحطاط والتخلف في المجتمعات الإسلامية٬ ومن جهة أخرى يمدح الأمريكيين على تمسكهن بالمسيحية.

هذا وفي نظر توكفيل الأفكار المشتركة تلعب دور الاسمنت المقوي للبناء الاجتماعي والضامن لبقائه واستمراريته٬ و هي الفكرة التي نشاطره فيها.

وعن دراسته الشهيرة هذه “الديمقراطية في أمريكا”، نجد أن العديد من العلماء والمفكرين قد زكوا هذه الأخيرة٬ ورأوا فيها تحول نوعي في الدراسات السياسية والاجتماعية. وفي هذا الصدد نجد ”مشيل مان” في موسوعته يقول: كتاب “الديمقراطية في أمريكا “يتضمن مناقشة كلاسيكية للأسس الاجتماعية التي تقوم عليها السياسات الديمقراطية. كان توكفيل حريصا بصفة مستمرة على مقارنة جهاز الدولة الفرنسي الذي يتصف بالقوة والمركزية الشديدتين بنمط الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية تماما (في ذلك الحين). وفي إطار هذه المقارنة، كان يؤكد على أهمية الحفاظ على “حرية” وديمقراطية ذلك الخليط المتنوع من الجمعيات والروابط التطوعية التي كان الأمريكيون يديرون بها شؤونهم”[17]

لقد حاول توكفيل أن يفهم سر نجاح الديمقراطية في أمريكا بالرغم من كونها لم تأتي عن طريق الثورة والصراع بل عن طريق الجمعيات، عكس فرنسا والعديد من الدول الأخرى الأوربية والتي جاءت عن طريق الثورة وإزالة النظام القديم.

ومع هذا يقول ميشيل مان: “… فإن هذا لم يمنعه تماما من توجيه النقد لأمريكا، بعد إدراكه للمخاطر الناجمة عن “استبداد الأغلبية” وتنبؤه مقدما بأن “العبودية” في الغرب الأمريكي سوف تعجل بإحداث أزمة للديمقراطية الأمريكية. وكان الجزء الثاني من “الديمقراطية في أمريكا” يتضمن مناقشة ذكية وبارعة للنتائج الثقافية المترتبة على الديمقراطية – آثارها على الآداب، والفنون والعلوم، وأساليب المعاملة – وهي التي تشكل سوسيولوجيا حقيقية وأصيلة للمعرفة.[18]

وكما يقول جان فرنسوا دورتيه: “إن الديمقراطية بالنسبة لتوكفيل ليست نظاما سياسيا وحسب، بل هي من قبل أي شيء آخر حركة شاملة، اجتماعية وسياسية في آن واحد. من الزاوية الاجتماعية ، إنها المطالبة بالتساوي في الظروف، أي إلغاء المجتمع الأرستقراطي، حيث الارتقاء في المجتمع مشروط بالرتبة من حيث الولادة، وعلى الصعيد السياسي إنما الحق للجميع (لا لنخبة معينة وحسب) وبالمشاركة في الحياة السياسية، وتعتبر هذه المطالبة الديمقراطية، بحسب ما يعتقد توكفيل، حركة لا يمكن أن تتوقف. وهذا ما نلاحظه في أمريكا، في كل أرجاء أوربا. إلا أن حركة الديمقراطية هذه لا تترجم في القارتين بالطريقة نفسها”.[19]

وعليه فإن الديمقراطية كتجربة إنسانية تعد من أهم التجارب السياسية في العصر الحديث، إلا أنها ليست بوصفة يمكن أن تطبق بنجاح في كافة البلدان وعلى مستوى كافة الشعوب، أنها تخضع للعديد من الشروط منها وبالخصوص “الخصوصية الثقافية” La spécificité culturelle ٬والوعي الاجتماعي للأفراد وخاصة مدى تقدم المجتمع المدني من جهة أخرى. وعليه الديمقراطية هي ثقافة قبل كل شيء.

إن الديمقراطية التي وقف عليها توكفيل في أمريكا هي نظام تعاقدي تنشط من خلاله كل من الجمعيات والنوادي في بناء المجتمع على أسس كل من المساواة وخاصة الحرية. إنه نظام يسمح للأغلبية الساحقة أن تشارك في القرار من خلال التصويت مثلا، أي المشاركة السياسية، إلا أن هذا لا يعني بأن الديمقراطية الأمريكية نظام مثالي ونموذجي، بل لها العديد من العيوب كما أشار إليها توكفيل زيادة على ذلك ما وجدناه عند العالم روبيرت ميرتون Robert Merton الذي رأى أن الديمقراطية الأمريكية لا تعطي فرصة متساوية لكافة أفراد المجتمع، بل هناك خلل وتضارب بين ما سماه بالأهداف (الطموحات) والوسائل المتوفرة عند كل طبقة وبالتالي هذا يحدد مسبقا عملية الحراك الاجتماعي.

كما قام بدراسة تحليلية نقدية للثورة الفرنسية وجذور النظام القديم وهذا من اجل معرفة الشروط الموضوعية لبناء المجتمع الفرنسي الجديد، وحول عمله “النظام القديم نجد ”ميشيل مان” يقول: “أما النظام القديم” فهو دراسة لأصول الثورة الفرنسية، وفيه يصور توكفيل مدى قوة وسلطة جهاز الدولة في ظل “النظام القديم” ففي هذا النظام يتساوى جميع الناس نسبيا في خضوعهم وامتثالهم له، وإن كان في تحليله للبناء الطبقي الفرنسي، يظهر أيضا العقبات التي حالت دون ظهور “طبقة متوسطة” قوية يتوافر لديها الوعي بمصالحها المشتركة”.[20]

ودائما حول مؤلفه الثاني “النظام القديم” والذي لا يقل أهمية عن كتابه الأول “الديمقراطية في أمريكا” يشير جان فرانسوا دورتيه:

“في وقت لاحق وفي كتابه ” عن النظام القديم والثورة (1856)، برهن توكفيل أن الثورة الفرنسية، إذا كانت قد قلبت النظام الملكي باسم الديمقراطية والمجتمع الأرستقراطي باسم المساواة في الحقوق، فهي تندرج في إطار حركة كبرى من المركزية الإدارية بدأت منذ زمن طويل وطيلة فترة النظام القديم”.[21]

هذا فيما يخص الكتابين الأكثر شهرة لهذا المفكر، أما بالنسبة للأعمال حول الجزائر والتي هي موضوع دراستنا، فسوف نسلط عليها الضوء من خلال التحليل والنقد وإظهار إسهامات هذا المنظر الكولونيالي في التوسع الفرنسي واحتلال الجزائر

 

 

خلاصة:

حاولنا من خلال هذا الفصل التعريف بالمفكر الفرنسي ألكسيس دي توكفيل Alexis de Tocqueville والمسار الذي قطعه خلال حياته القصيرة والمليئة بالإنتاج الفكري والمعرفي المتنوع.

كما تعرفنا على الرجل السياسي الذي كان من كبار المنظرين الفرنسيين والمدافعين على مجد فرنسا، حيث تقلد العديد من المهام والمسؤوليات ومنها وظيفة وزير الخارجية.

وقد تبين لنا أن الرجل كان يتمتع بذكاء خارق ٬وخاصة جمعه بين مواصفات السياسي المحنك والباحث المتشبع بجميع مواصفات الباحث المعاصر في حقلي علم الاجتماع والسياسة.

لقد رأى فيه العديد من العلماء والمهتمين بالفكر التوكفيلي، أنه أحد الأقطاب المتميزة في البحوث التطبيقية في علم الاجتماع السياسي والدراسات الأثنوغرافية، حيث أنه لم يكتف بالكتابات النظرية كما فعل من سابقوه أو الذين عايشهم.

كان توكفيل متواجد في كل الجبهات السياسية، الدبلوماسية، الفكرية والاجتماعية، الأمر الذي سمح له بمعرفة تفاصيل القضايا الكبرى التي كانت مطروحة أيامه.

استطاع توكفيل بفضل رحلته إلى أمريكا الاطلاع عن قرب على النموذج الديمقراطي الأمريكي وخاصة مقارنته مع النموذج المتواجد في فرنسا وبعض الدول الأوربية، ثم الوصول إلى مخاطر هذا النموذج بالرغم من إيجابياته العديدة.

كما قام بدراسة تشريحية تحليلية للنظام القديم والثورة في فرنسا، وذلك من خلال إتباعه المنهج المقارن والمنهج التاريخي لكشف حقائق هذا النظام وميزات وخصائص الثورة، والخروج بالعبر لتفادي السقوط في الفوضى والاستبداد.

زيادة على هذا لم يتوقف توكفيل عند هذا الحد٬ بل كان من كبار المنظرين والمساندين للاستعمار الفرنسي في إفريقيا وخاصة الجزائر.

سوف نعمل في هذه الدراسة على التحليل والنقد لكتابات توكفيل حول الجزائر، والتي كانت في نظرنا من أهم الأسس و الدعائم للنظرية الكولونيالية في الجزائر.

 

 

 

 

[1] Bruno Milly: Histoire des pensées sociologiques, 2eme edition, Armand Colin, Paris, 2005, p.p.104-105.

[2]–  Ibid, p. 105.

[3]– Ibid, p. 105.

[4] هارفي سي مانسفيلد، توكفيل، مقدمة قصيرة جدا، مرجع، ص. 23.

[5] _المرجع٬ ص.23

[6]_Marc Montoussé et Gilles Renouard :100 fiches pour comprendre la sociologie,3 éditions, Bréal éditions , Paris, France 2006,p.22.

[7]– Ibid ,p. 22

[8]– Ibid ,p. 22

[9]– Ibid, p. 23

[10]– Ibid, p. 23

[11]– Ibid, p. 23

[12]– Ibid ,p. 23

[13]– Ibid ,p. 23

[14]– Ibid., p. 23

[15] -Ibid., p. 23

[16]_Alexis de Tocqueville :de la démocratie en Amérique. Éditions Gallimard .coll.  .Folio Histoire, Paris .1986.tome2 p.20

 

 

 

 

 

[17] ميشيل مان: موسوعة العلوم الاجتماعية، نقلها إلى العربية عادل مختار الهواري وسعدين مصلوح: دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1993، ص. 720.

 

[18] نفس المرجع، ص. 720.

[19] جان فرانسوا دورتيه، معجم العلوم الإنسانية، ترجمة: د. جورج كتورة، ط2، كلمة ومجد المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الإمارات العربية المتحدة، 2011، ص. 290.

 

[20] ميشال مان، مرجع سابق ذكره، ص. 720.

[21] جان فرانسوا دورتيه، مرجع، سابق ذكره، ص. 291.

 

Exit mobile version