موقع أرنتروبوس

آليات الحفاظ على العذرية في المجتمع الريفي (4 من 4)

بقلم : سوسان جرجس

تتناول هذه الورقة البحثية “آليات الحفاظ على العذرية في المجتمع الريفي” عبر ما تحمله من دلالات وقيم في وقت تتوسّع فيه أطر التثاقف من جرّاء ما نعيشه من سيرورات الحداثة والعولمة التقنية.

إذا كانت العذرية تعتبر تمظهراً لهاجس ذكوريّ محض يموضع الشرف في تملّكه لِما بين أفخاذ النساء، فما هي الآليات التي إستثمرها المجتمع البطركي مباشرة أو مداورة للحفاظ على عذرية المرأة المتمثّلة بغشاء البكارة؟!!

آليات الحفاظ على العذرية:

  1. الختان .
  2. التقاف .
  3. رقابة حراك المرأة ضمن المجال .
  4. الزواج المبكر .
  5. الإلتزام الديني :

5.1 اللباس والحجاب.

5.2 عدم التزين والتجميل.

5.3 تقنين الإختلاط بين الجنسين:

إنّ تقنين الإختلاط بين الجنسين موجود في كافة المجتمعات البطركية، إلّا أّنّ هناك إختلافات نسبية تبعاً لعدة متغيرات أبرزها: نمط الإنتاج المتبع، والإنتماء الطبقي، ومدى الإلتزام الديني للناس.

بشكل عام لم تنجح المجتمعات الزراعية في فرض عملية الفصل بين الجنسين بشكل واضح وجليّ. إنّ ما يحصل هو نوع من التأرجح ما بين التقييد حيناً والمرونة أحياناً أخرى تبعاً للظروف الإجتماعية والإقتصادية/ الإنتاجية، دون أن ننسى طبعاً تأثير الدين السائد (حسب الظروف المعاشة) في تفعيل أو تخفيف تلك المسألة الجندرية.

في الفترات والمناطق التي يسود فيها نمط الإنتاج الزراعي، تعمل المرأة بشكل عام إلى جانب الرجل في الحقل وتلتقي به عند نبع الماء أو في ساحة القرية. إنّ هذا اللقاء الخارجي لا ينفي خضوع هذا الوجود لمجموعة من الضوابط الإجتماعية التي تقنّن إختلاط الجنسين بشكل غير مباشر كأنّ لا يكون اللقاء ثنائياً بين الرجل والمرأة وإنّما يكون ضمن مجموعة، كما يفترض الحفاظ على مسافة مقبولة إجتماعياً حين اللقاء، أضف إلى ضرورة التكلّم بصوت عالٍ أو للحظات قليلة جداً، أي بحدود ما هو لائق وضروري فقط.

في مثل هذه المناطق الزراعية لا يكون للدين أثر كبير في مسألة الإختلاط بين الجنسين، وإنّما الأثر الأكبر لمتغير الطبقة. بمعنى آخر، فالإختلاط مقنّن وليس محرّم بين المزارعين والمزارعات سواء أكان ذلك في مناطق مسيحية أو إسلامية.

إذا أردنا التدقيق في أهمية إرتباط متغير الطبقة بمسألة الإختلاط بين الجنسين، فسوف نرى أنّ المزارع الفقير مضطّر للتغاضي عن إختلاط زوجته بالآخر (الرجل) لأنّه يحتاج إليها مرغماً كيد عاملة مجانية، في حين أنّ الإقطاعي، وإن كان غنياً، فهو محمّل بذهنية تقليدية تنظر إلى النساء كما الأرض. إنّها ملكية خاصة قد يهجرها ولكنّه لن يدعها للآخرين (الفقراء)، لأنّ فعله هذا يهدّد شرفه ومكانته الإجتماعية.

مع خفوت نمط الإنتاج الزراعي وانتشار التعليم بين النساء ودخولهنّ سوق العمل المأجور، تبدأ ملامح الفصل والإختلاط بين الجنسين تأخذ أشكالاً أخرى.

إنّ المناطق التي كسرت عزلتها الإجتماعية بالتثاقف والعولمة التقنية والثقافية إعتمدت الإختلاط بين الجنسين مع تقييده بضوابط المجتمع البطركي ونظرته إلى المرأة. لقد أضحت الصداقة مع الرجل مسموحة ولكن بشروط، كأن لا يتم التزاور بين الشاب والفتاة في المنزل وإنّما تبقى صداقة مدرسة أو عمل أو نادي أو كشّاف الخ، كما أنّ الصداقة الثنائية الحميمة بين الشاب والفتاة ستجعل هذه الأخيرة خاضعة لمراقبة الأهل والناس بشكل عام. إضافة الى ما ذكرنا فالإختلاط مع الذكور مقنّن بضوابط زمنية كأن لا يتعدى ساعة معينة من الليل وإلّا تمّ إتهام المرأة بعلاقة جنسية “محرّمة” لن تفتأ عن إرتكابها مع الرجل حسب المخيال الإجتماعي . هكذا يبدو لنا أنّ في اللاشعور الرجولي تصوراً عن الجنسانية النسوية، تصوراً يجعل منها هي الجنسانية الأقوى والتحدّي المستمر لفحولة الرجل. إنّها عامل الفتنة الذي يحتاج دوماً للمراقبة، باعتبارها في المخيال الإجتماعي الأبوي، غير قابلة للإشباع[1].

أمّا في المناطق الزراعية ذات الإنتماء للدين الإسلامي، فقد أخذ الفصل بين الجنسين يتّجه نحو مزيد من التقنين والمراوغة. حرص الناس في تلك المناطق على عدم خلو المرأة بالرجل، لما يحيط بذلك اللقاء من مخاطر تهدّد الرجل والمرأة.

لقد تمّ تمثّل المرأة بإعتبارها فتنة شديدة الخطر على الرجال، وهي لا تلبث أن تنعكس خطراً على ذاتها. ورد في الحديث النبوي الشريف “المرأة تقبل وتدبر في صورة شيطان”[2]، كما جاء في حديث آخر “ما خلا رجل وامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما[3]“.

يمثّل الشيطان في هذه الأحاديث خطر العلاقة الجنسية المحرّمة الشديدة الإحتمال. وفي مواجهة تلك المخاطر الواردة، حرص الناس على إتباع آلية وقائية تؤكد عدم خلو المرأة بالرجل لما في ذلك من تهديد لسمعتها وشرفها.

على الرغم مما أوردناه سابقاً فهناك القليل من الفتيات اللواتي يتحايلن على أهاليهنّ من أجل اللقاء بالآخر؛ لقاء غالباً ما يتمّ في السرّ وبتواطؤ مع إحدى الأخوات أو الصديقات.

بعيداً عن اللقاءات الثنائية الحميمة المحرّمة، فقد كان الإختلاط بين الجنسين يتمّ بشكل مقنّن وفي حدود الضبط المتعارف عليه إجتماعياً.

في المدراس المختلطة، غالباً ما ينفصل الطلاب تلقائياً داخل الصف، ويجد الغالبية حرجاً من الجلوس الى جانب الجنس الآخر. كيف لا والأمهات يردّدن على مسامع بناتهنّ “لا تأمّن لدكير ولو كان طول شبير”. إنّ الولد/ الذكر حسب المخيال الإجتماعي، ومهما كان صغير السن، فسوف يبحث عن فتاة يكتشف قرب جسدها قدرته المراهقة في الإنتصاب وتحقيق الهوية الذكورية.

في مرحلة التعليم الثانوي التي غالباً ما تكون خارج القرية، فالقليل من الأهل هم من يسمحن لبناتهنّ بالتعلّم. وفي حال السماح، فإنّ قسم من الفتيات يجد في ذلك متنفساً “للتحرر” والإختلاط بالآخر بعيداً عن عيون الأهل، ولكن هناك قسم آخر منهنّ سوف يستنبط خوفه ويعيش هاجس وجود شبكة تناقل الأخبار التي تعمل كآلية فعّالة لمراقبة تحركات المرأة. هذا إلى جانب أنّ الفتاة بفعل خطاب التنشئة التقليدي الجندري سوف تقوم شخصياً وبلا وعي منها بتقييد حركاتها ومراقبة تصرفاتها وكبت رغباتها، وتنمية مشاعر الخجل لديها من كل ما يتعلّق بذلك الجسد/ العورة ما يجعلنا إزاء “الخجل من الأنا قبل الخجل من الآخر”[4].

يتّضح إذاً أنّ الفتاة وعبر تلك التنشئة الصارمة تصبح هي من يستبطن آليات الفصل بنفسها، لأنها أصبحت جزءاً من هابتوسها الجسدي والفكري والنفسي.

ليس الإختلاط وتقنينه مقتصراً على مؤسسات التعليم، ففي حفلات الزفاف يحبّذ الكثيرون اليوم أن تكون الحفلات منفصلة كي تأخذ الفتيات راحتهنّ في اللباس والرقص والضحك، ذلك أنّ الأعراس المختلطة تفرض على المرأة التحشّم في لباسها، كما أنّه يقيدهنّ في مجمل تحركاتهنّ وسلوكياتهنّ. تجدر الإشارة أنّه حتى في حال الحفلات المنفصلة، تبقى الفتاة مراقبة في كل تفاصيلها ولغتها الجسدية من خلال النساء اللواتي يطلقن أحكامهنّ القيمية بناءً على صور نمطية وهابتوسات يتمّ إستبطانها.

تبقى سيارات الأجرة والباصات أكثر مكان عام يكشف حجم الفصل بين الجنسين وأشكاله وإشكالاته عند جميع الناس بغضّ النظر عن الإنتماء الديني أو مستوى التعليم أو طبيعة العمل أو غيره.

ترفض الكثير من النساء الجلوس في الباص إلى جانب الرجل خوفاً من التحرّش الجنسي. فإنّ اضطررن إلى الجلوس، فعلى المرأة أن تراعي إختيار وضعية مناسبة، كأن ترفض الجلوس بين رجلين، وتفضّل الجلوس على طرف المقعد، أي أن يكون الى جانبها رجل واحد؛ كما قد تشيح بنظرها غالباً نحو النافذة أو نحو أي شيء يبيّن لامبالاتها بمن يجلس الى جانبها. إنّ النظرات تغيّب نفسها، وفاءً منها للسلوك الذي ينبغي التمسك به في هذه الظروف[5].

تقوم المرأة غالباً بتقليص كامل جسدها وإنكماشه بعيداً عن الرجل وكأنّها تحقق بذلك نوعاً من الفصل الرمزي. إنّ ما يلفت النظر في هذه المسألة، أنّه وبمقدار إنكماش المرأة في مقعدها، فإنّ الرجل يعمل على تمديد جسده بأن يوسع بين رجليه أو يمد ذراعه خلف المقعد. ليست مثل هذه الوضعية الذكورية سوى رسالة تؤكّد أنّ المجال العام مباح للجسد الذكوري، في حين يُفترض نفي المرأة وجسدها نحو المجال الخاص.

أمّا في حال قبول المرأة بالجلوس براحة تامة قرب الرجل، فسوف تكون مدار شكّ وإتهام لإطلاق الأحكام القيمية التي تصنّفها في باب الدعوة العاهرة الى الجنس المحرّم.

في النهاية يبقى لنا أن نقول أنّ الفتاة تتربّى وتنشأ وتكبر وفي مخيالها صورة واحدة عن علاقة الرجل بالأنثى. إنّه الذئب أو الصياد الذي سينقضّ عليها في أي لحظة ليقتنص غشاء بكارتها، ذلك الكنز الثمين الذي كان يفترض بها وبأهلها أن يحشدوا كل الآليات المباشرة وغير المباشرة للحفاظ عليه. والواقع أنّ هذه الآليات المعتمدة في تهذيب الفتاة ليست وليدة الثقافة العربية وحدها بل هي من الوسائل المعتمدة في سائر المجتمعات الأبوية[6].

خاتمة:

آليات كثيرة هي التي إستثمرها النظام البطركي بشخص سيّده الرجل وشرطيّه المرأة من أجل الحفاظ على “غشاء البكارة” الأنثوية، عبر ما ترمز إليه من قيمة ل”لشرف”. آليات مباشرة وغير مباشرة إستخدمها الرجل ليملك حق المتعة بالجسد الأنثوي ويضمن سلامة النسب. فهل يعقل أن تختزل قيمة كالشرف بغشاء بين أفخاذ النساء؟؟ أليس هذا الغشاء بل والجسد الأنثوي كاملاً ملك لصاحبته؟؟ أفلا يفترض بها حق منحه أو منعه تبعاً لقناعاتها الذاتية؟؟ هل يجوز إستمرار تمثّلنا للمرأة على أنها ناقصة عقل ودين؟ ضلع أعوج؟ لا يمكن أن يؤتمن على جسده؟؟ إذا كان غشاء البكارة “السليم” يمثّل الشرف، فأين هو شرف الرجل؟؟ إذا سلمنا أنّ “الشرف” متموضع في غشاء البكارة، فهل يعني هذا أنّ من تعيش إباحية جنسية دون أن “تفرّط” بغشاء بكارتها “شريفة”؟؟ نحن اليوم في عصر تكتسح فيه عمليات إعادة غشارة البكارة أو ما يسمى بترقيع البكارة كافة المجتمعات، أفلا يؤسس هذا لظاهرة الرياء الزوجي التي من شأنّها إيجاد أسر مفكّكة في جوهرها؟؟ هي تساؤلات كثيرة تحمل قلقاً معاشاً يقول متى نتعامل مع المرأة كإنسان كامل مستقل وليس كجسد ممأسس داخل النظام البطركي؟؟




 [تمت]




كاتبة المقال : سوسان جرجس : كاتبة وباحثة في مجال الأنثروبولوجيا من لبنان. تركز اهتماماتها على الدراسات الجندرية. تهوى الكتب والمطالعة وكتابة الشعر والقصة القصيرة. تكتب في بعض المواقع الإلكترونية العربية مثل مجلة معارج الفكر ومجلة صدى الفصول الشعرية.




تم نشر هذه الورقة ضمن فعاليات المؤتمر الرقمي الأول للإنسانيات والعلوم الإجتماعية – والذي صدرت أعماله لاحقاً ضمن كتاب – (يمكن تحميله مجاناً)




الهوامش :

[1] عبدالصمد الديالمي، سوسيولوجيا الجنسانية العربية، مرجع سابق، ص. 21.

[2] أحمد التيجاني، تحفة العروس ومتعة النفوس، مرجع سابق، ص 36.

[3] نفس المصدر، ص 35.

[4] Sandra Lee Bartky, Femininity and Domination: Studies in the Phenomenology of Oppression, Oxford, Berg, 1992, p.85.

[5] دافيد لوبروتون، أنتربولوجيا الجسد والحداثة، ترجمة محمد عرب صاصيلا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1997، ص 132.

[6] Luce Irigaray, Spéculum de l’autre femme, Paris, Minuit, 1974, p. 24.




المصادر والمراجع :

  1. Ahmed Leila, Women and Gender in Islam, New Haven and London: Yale University Press, 1992.
  2. Andezian Sossie et Streiffenat Jocelyne, “Relation de voisinage et contrôle sociale”, peoples méditerranéens, N 22\23, Janvier- Juin, 1983.
  3. Arzaroli Christine, Le maquillage clair-obscur, l’Harmattan, 1996.
  4. Balandier Georges, Le détour : Pouvoir et modernité, Paris, Fayard, 1985.
  5. Bartky Sandra Lee, Femininity and Domination: Studies in the Phenomenology of Oppression, Oxford, Berg, 1992.
  6. Baudrillard Jean, De la séduction, Paris, Galilée, 1979.
  7. Bernard Miriam & Meade Kathy, eds, Women Come of Age: Perspectives on the Lives of Older Women, London, Edward Arnold, 1993.
  8. Bettelheim Bruno, Les blessures symboliques, Paris, Gallimard, 1971.
  9. Bourdieu Pierre, La domination masculine, Seuil, 1998.
  10. Chebel Malek, Le corps dans la tradition au Maghreb.
  11. Giladi Avner, “Normative Islam Versus Local Tradition: Some Observations on Female Circumcision with Special Reference to Egypt” Arabica, vol XLIV, 1997.
  12. Héritier Françoise, La construction de la différence, Le Pommier, 2005
  13. Horney Karen, La psychologie de la femme, éd. Payot, Paris, 1969.
  14. Irigaray Luce, Spéculum de l’autre femme, Paris, Minuit, 1974.
  15. Julien Nadia, Dictionnaire des symboles, Bruxelles, Marabout, 1989.
  16. Kaufmann Jean- Claude, Corps de femmes, regards d’hommes, Sociologie des seins nus, Nathan, 1995.
  17. Knibiehler Yvonne, La virginité féminine, Odile Jacob, 2012.
  18. Konig René, Sociologie de la mode, (Traduit par L. Jospin), Paris, Payot, 1969.
  19. Lacoste-Dujardin Camille, des mères contre les femmes : maternité et patriarcat au Maghreb, La découverte, 1985.
  20. Le Breton David, Les passions ordinaires: Anthropologie des émotions, Armand Collin\Masson, 1998.
  21. Le Breton David, Des visages: Essai d’anthropologie, Métailié, 2003.
  22. Skeggs Beverley, Formation of Class and Gender, London: Sage Publications, 2001.
  23. Speroff Leon, Glass Robert.H, Clinial gynecologic, Endocrinology and infertility,5ème édition, Wiliams & Wilkins, London, 1994.
Exit mobile version